الشهادات فخر ثقافيّ أم زيفٌ مُقنَّع؟ – أخبار السعودية – كورا نيو

في زمنٍ يفيضُ بالادعاء وتُختزل فيه القيم في ألقابٍ تُمنَح بلا جهدٍ ولا استحقاق، تبرز ظاهرة «شهادات الدكتوراه المزيّفة» وما يُعرف بـ«الدكتوراه الفخريّة» باعتبارها علامة فارقة في مشهدٍ عربي يُخشى عليه أن يفقد بوصلته الأخلاقيّة والمعرفيّة.
إنها ليست قضية شكليات أو حبر على ورق، بل جرحٌ نازف في جسد الثقافة، ومشهد عبثيّ يُزيّن القبحَ بالألقاب ويُروّج للفراغ باسم العلم، والزيف، حين يُشرعن في الإعلام أو يُتقبّل مجتمعياً، يُحوّل الثقافة من رسالة إلى وظيفة تجميليّة، ومن بناء معرفي إلى تسويقٍ ذاتيّ أجوف. بل إنه يهدم الثقة في المؤسسات العلميّة الحقيقيّة، ويُضعف صورة الباحث الصادق الذي قضى سنوات من عمره في سبيل المعرفة.
والدكتوراه الفخريّة، في أصلها، تكريم معنوي تقدّمه الجامعات العريقة لشخصياتٍ خدمت الإنسانية أو العلم أو الثقافة. غير أن الأمر تحوّل في العقود الأخيرة إلى «أداة علاقات عامّة» تُمنح لرجال الأعمال، والمشاهير، وأحياناً لمجرّد دعمٍ ماليّ أو وجاهة اجتماعية! أو لفتاة تتغنج في حديثها غُنجها في مشيتها، فتُصبح الشهادة، في يد البعض، وسيلة لتضليل الجماهير؛ إذ يبدأ الحاصل عليها بلقب «د.» في كل مناسبة، ويقدَّم للناس بوصفه مفكراً أو باحثاً، دون أن يكون كتب بحثاً علمياً واحداً محكّماً، أو اجتاز أدنى متطلبات العمل الأكاديمي. فيتحول الفخر المعنوي إلى «زيفٍ مُقنَّع»، يعزز النفاق الثقافي ويكرّس الوهم.
ومن المؤلم تزايد سوق بيع وشراء شهادات، على قارعة الإنترنت أو من جامعاتٍ «وهمية» لا وجود لها إلا في خوادم إلكترونية، تُمنَح بمقابل مادي لمن يملك المال لا العقل، والجاه لا الجهد. والمأساة لا تقف عند حدود التزوير، بل تتجاوزها حين يتحوّل صاحب الشهادة المزيّفة إلى «خبير» يُنصَّب على المنابر، يُحلّل ويُنظّر، ويُدرّسُ في الجامعات والمؤتمرات، وهو في حقيقته لم يدخل مكتبة أكاديمية، ولا سهر ليلة واحدة في مختبر علميّ.
إن إفراغ اللقب من معناه وحين تتساوى شهادة الدكتوراه التي نالها باحثٌ جاد مع شهادة اشتراها متسلق أو نالها مُمثّل أو سياسي تكريماً، تُفقد اللقب الأكاديمي معناه، ويضيع التمايز بين الجهد والانتحال.
كما أن هدم المصداقية الأكاديمية، يؤدي إلى انهيار مبدأ الجدارة والاستحقاق، وتُصبح الساحة العلمية مفتوحة للمُدّعين، ما ينعكس سلباً على جودة التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع، ويشوّه صورة المثقف الحقيقي في ظل هذا التضليل، فيجد المثقف الحقيقي نفسه متهماً بالتنطّع أو التقصير، لأن الزيف «الأنيق» صار أكثر رواجاً وجاذبية، وأكثر قبولاً في أعين العامة.
ومن لوازم التوعية المجتمعية، حول الفروق بين الشهادات الأكاديمية الحقيقية والمزيفة أو الفخرية، وإعادة الاعتبار للجهد العلمي؛ تجريم التزوير العلمي، واعتماد قوانين صارمة تجرّم من يدّعي زوراً حمل شهادات علمية غير حقيقية، وفرض عقوبات واضحة، وفصل الألقاب عن الوظيفة، وتقنين استخدام لقب «دكتور» فلا يُستخدم في الإعلام أو الوثائق إلا لمن حصل على الدرجة العلمية من جهة معترف بها أكاديمياً.
وربما لا تكمن الخطورة في الشهادات المزيّفة أو الفخرية في ذاتها فقط، بل في أثرها التراكمي على الوعي الجمعي، حين تُصبح أدوات لهدم المعايير وتزييف الوعي. إنها ليست مجرد لقب يُنتحل، بل زور ثقافيّ يُمارس باسم المعرفة، وعلينا أن نختار: هل نريد ثقافة حقيقية نزيهة؟ أم زيفاً مُقنّعاً ينهش وجدان الأمة؟
ختاماً «العلم ليس وساماً على الجدران، بل ضميرٌ في الفعل، ونورٌ في الطريق».
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات