سميرة محمد أمين.. ورثت من أبيها جينات العمل – أخبار السعودية – كورا نيو

قالوا قديماً، إن «البنت سر أبيها»، كناية عن عمق العلاقة ومتانتها بين الأب والبنت، كما قالوا، إن «وراء كل امرأة ناجحة أب عظيم»، في إشارة إلى أن البنت لا تجد من هو أحن عليها من أبيها، فهو الذي يعلمها ويوجهها منذ الصغر ويقف بجانبها في مسيرتها الدراسية والمهنية والأسرية وهو السند والملجأ في كل الأحوال والظروف، لذا فإن البنت ترى في أبيها القدوة، وتتأثر بشخصيته وعلمه وخبرته في الحياة.
كلامنا هذا ينطبق على السيدة «سميرة محمد أمين عبدالله البستكي»، التي ستكون محور هذه المادة التوثيقية، والتي تعلمت الكثير من والدها شيخ المؤرخين والمترجمين في سلطنة عمان «محمد أمين عبدالله»، بحكم تنقّلها معه من مكان إلى آخر في رحلة الشتات والتعليم والعمل الوطني، في حقبة ما قبل وصول جلالة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله إلى سدة الحكم عام 1970، وتدشينه عهد التنمية والبناء والانفتاح على العالم.
والحقيقة أنه لا يمكن الكتابة عن سميرة محمد أمين دون أن يعرّج المرء على سيرة والدها، الذي ورثت منه مهارات كثيرة سواء لجهة الشغف بالعلم والارتقاء بالذات، أو لجهة عشق العمل من أجل المجتمع والوطن وازدهارهما. كتبت عنها مواطنتها الدكتورة سعيدة بنت خاطر الفارسية في صحيفة «الرؤية» العمانية (20/10/2021) فقالت: «عرفتها ذات مهارات عليا في التفكير والتخطيط وتتمتع بمهارات ذهنية، ولذا تتصدر الاجتماعات بالمقترحات التي كثيراً ما تكون جديرة بالاهتمام والأخذ بها، كيف لا والطفل يتكون حسب ما أنشأه أبواه، وكيف لا وهي ابنة الأستاذ محمد أمين عبدالله البستكي، رائد الترجمة في عمان والخليج العربي وصاحب الدور المؤثر على صعيدين خطرين: أولهما قيامه في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932 ــ 1970) بعملية تنظيم وترتيب إخراج أبناء وطنه المتعطشين للعلم والمعرفة من مجتمعهم المغلق آنذاك، بغية إيفادهم إلى الخارج من أجل التعليم على نفقة الدول العربية الشقيقة، وثانيهما قيامه في عهد السلطان قابوس بن سعيد بإثراء المكتبتين الخليجية والعربية بترجمات متقنة للعديد من المؤلفات التاريخية الهامة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية، ولاسيما تلك المتعلقة بتاريخ عمان القديم والأوسط، وذلك بحكم إجادته للغتين إجادة تامة».
ولد أبوها في مسقط في حدود عام 1915، ابناً لأسرة تعود أصولها إلى مدينة بستك الواقعة اليوم ضمن محافظة هرمزكان في جنوب فارس العربي، الذي كان حتى العام 1868 تحت إدارة الإمبراطورية العمانية الممتدة من سواحل شرق أفريقيا حتى سواحل بندر عباس، وفي مسقط نشأ ودرس القرآن ومبادئ الدين واللغة العربية وفق أسلوب التعليم القديم المعتمد على الكتاتيب التقليدية والتلقين على يد مدرس يدعى «أبوذينة». هذا التعليم البدائي والمحدود في شكله وأسلوبه ومحتواه لم يروِ ظمأه المعرفي، ولم يشبع طموحاته في الارتقاء بذاته، فعمد إلى مطاردة الكتب، على قلّتها آنذاك، وقراءة كل ما يقع منها بين يديه. وهكذا اطّلع على الكثير من المعارف والعلوم، فأصبح ضليعاً في قواعد اللغة العربية ونحوها وبلاغتها، ثم أضاف إليها إتقان اللغة الإنجليزية تحدثاً وقراءة وكتابة، بل مارسها ممارسة عملية أثناء عمله في القنصلية البريطانية بمسقط في أربعينات القرن العشرين، وهو العمل الذي تركه في أعقاب مشادّة بينه وبين القنصل البريطاني. تلك المشادة كانت سبباً في قراره بالهجرة إلى الخارج مع ثلّة من أصدقائه، على نحو ما كان يفعله عمانيون كثر في تلك الفترة الحرجة بحثاً عن لقمة عيش شريفة وسعياً وراء المزيد من العلم النافع والحياة الكريمة. وهكذا حط رحاله سنة 1947 في باكستان، التي كانت وقتذاك مزدهرة علمياً وثقافياً ومستقرة سياسياً واجتماعياً، فالتحق في كراتشي بوزارة الإعلام الباكستانية وعمل بها مترجماً من الإنجليزية إلى العربية بإذاعة القسم العربي حتى عام 1953، وهو العام الذي غادر فيه باكستان نهائياً بعد أن سئم من الإقامة الطويلة بها، ومن الضغوط التي كان يتعرض لها من وزارة الإعلام الباكستانية للترويج لأفكار معينة متعلقة بالنموذج السياسي الباكستاني القائم على إثارة الحماس الديني، فيما كانت رغبته هي حصر عمله في ترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية فحسب. ومن الأسباب الأخرى التي دعته لمغادرة باكستان، رغبته في أن تنشأ ابنتاه سميرة وزكية في بيئة عربية من أجل اكتساب الثقافة العربية تحدثاً وكتابة. وهكذا اختار البحرين محطة جديدة لإقامة أسرته. وعليه فقد عاشت سميرة في البحرين من سن الثالثة إلى الرابعة، ثم انتقلت هي وأسرتها إلى الكويت بدعوة من صديق والدها العماني حمدان عبدالله، الذي كان يشغل آنذاك منصب المدير العام لدائرة بريد الكويت، حيث واصلت هناك دراستها حتى الصف الثاني الابتدائي، وحيث وُلد شقيقها الوحيد جبير (عُيّن في منصب رئيس شؤون الضيافة السلطانية بدرجة وزير عام 1996 وتوفي في فبراير 2023 وتم دفنه بمقبرة حارة الشمال في مطرح).
اضطُرت العائلة بعد ذلك لمواصلة رحلة الشتات، لأسباب سياسية، فانتقلت إلى القاهرة، حيث وُلدت الابنة الثالثة «تهاني»، وحيث عاشت سميرة طالبة من عام 1956 إلى عام 1970. ومما لا شك فيه أن سميرة تعلمت الكثير من إقامتها في مصر في تلك المرحلة الزاخرة بالأحداث السياسية والتقلبات الفكرية والنتاج الأدبي والفني والثقافي الراقي لكبار المبدعين المصريين والعرب. تحدثت سميرة عن زمنها القاهري فقالت: «وما أدراك ما القاهرة في ذلك الوقت، وما كانت تعجّ به من ضروب الثقافة والفكر والإبداع والفنون التي تكاملت فأفرزت ذلك الجمال والنظافة والألق، وتجمعت (تحت سمائها) كثير من الجاليات العربية المثقفة».
لكنها في الوقت نفسه عاشت حياة غربة قاسية، خصوصاً في ظل قلّة دخل الأسرة، واضطرارها للتقشف. إذ كان والدها في مرحلته القاهرية مجرد موظف يعمل في مكتب إمامة عمان بالعاصمة المصرية مقابل راتب زهيد لم يكن يسدّ التزاماته الشخصية أو التزاماته العائلية، الأمر الذي تسبب له في ضائقة مالية لم تنفع معها عودته لنشاطه القديم في ترجمة الكتب من الإنجليزية إلى العربية.
وبوقوع كارثة حزيران 1967 وتداعياتها، ساءت نفسية محمد أمين وأصابه الحدث في مقتل فجمد نشاطه في مصر لكنه آثر البقاء فيها متحملاً مرارة الغربة وضيق ذات اليد وقلّة الحيلة. أما ابنته سميرة فقد سارعت في عام 1970 بالعودة إلى مسقط لتتعرف على بلاد والديها وظروفها الجديدة في عهد السلطان الجديد، فأمضت بها فترة، ثم قررت الاستقرار في أبوظبي كمرحلة انتقالية. وفي أبوظبي تزوجت وعملت معلمة لمادة الاجتماعيات والاقتصاد من عام 1970 إلى 1972. لكنها بمجرد سماعها نداء السلطان قابوس لمواطنيه في الشتات بالعودة إلى الوطن لبنائه، عادت بمعية زوجها في عام 1972، ثم لحقت بها أسرتها التي عادت من مصر في عام 1974، ليُعيّن والدها موظفاً بوزارة الإعلام الناشئة، قبل أن تتم إعارته لوزارة التراث الوطني ليعمل ويواكب حركة الترجمة الواسعة في البلاد.
وكعادتها في اكتساب الخبرات والمواهب أينما حلت، فقد اكتسبت من عملها في أبوظبي الكثير من المهارات والخبرات الإدارية والتربوية، من خلال وظيفتها مدرسة لمادة الاجتماعيات التي شُغفت بها منذ الصغر ولمادة الاقتصاد التي تعلمتها من والدها خريج كلية الاقتصاد بجامعة كراتشي، ثم من خلال عملها في أبوظبي أخصائية اجتماعية ومساعدة إدارية لمديرة المدرسة التي عملت بها في أبوظبي.
بهذه الخلفية التربوية، عادت سميرة إلى عمان لتعمل في التدريس وبناء الأجيال العمانية الجديدة وسط ظروف البدايات الصعبة. تحدثت سميرة عن ذكريات تلك الأيام الأولى لها من العمل في وطنها، فقالت، إنها عملت في التدريس في مسقط في ظل ظروف صعبة للغاية بسبب انعدام التجهيزات الضرورية من طاولات ومقاعد ووسائل مواصلات من وإلى المدرسة، إلى درجة أنها كانت تضع الأوراق فوق قدمها للتمكن من الكتابة وتصحيح أوراق الامتحانات. أما تنقُّلها من المدرسة إلى مركز توزيع المقررات الدراسية فكان يتم بواسطة سيارة من نوع اللاندروفر وعبر طرق صحراوية وصخرية غير معبّدة. وأضافت ما مفاده، أن العمل وسط تلك الظروف كان نوعاً من العذاب اليومي، إلا أنه كان عذاباً جميلاً من أجل عيون الوطن، بحسب تعبيرها.
أول مديرة مدرسة عمانية
وهكذا عملت سميرة أولاً معلمة في مدرسة أسماء الابتدائية للبنات بمسقط، ومنها انتقلت إلى مدرسة الزهراء مديرة لها (دخلت تاريخ بلدها كأول مديرة مدرسة عمانية)، وعاصرت بدايات تعليم الفتيات في وطنها بكل ما اكتنفها من مشاكل وعوائق. تخبرنا سميرة، أن السلطان قابوس كان شديد الاهتمام والحرص على تعليم الفتيات، فكان يكرر زياراته الميدانية لمدارسهن بغية الاطلاع على تجهيزاتها ونواقصها من أجل توجيه من يعنيهم الأمر بتوفير اللوازم دون تأخير. وتتذكر سميرة واقعة زيارة السلطان لمدرستها الابتدائية، واستغرابه من تباين ألوان الزي المدرسي الموحد، الذي كان مردّه تعدد مصادر استيراد الزي ذي اللون الرملي، لعدم وجود محلات محلية كثيرة لتوريد الأقمشة وخياطتها في مطلع السبعينات.
وطبقاً للدكتورة سعيدة بنت خاطر (مصدر سابق)، فإن سميرة نالت ترقيات متتالية في مسيرتها التربوية. فقد عملت من عام 1979 إلى 1987 مديرة للأنشطة التربوية بوزارة التربية والتعليم، حيث برز اسمها من خلال هذا المنصب، ومن خلال ما حققته من إنجازات في حقول الرياضة والكشافة والأنشطة المدرسية والمهرجانات الطلابية والأعمال التطوعية، ناهيك عن تأسيسها جمعية المرشدات العمانية وتولي رئاستها. ثم عملت بعد ذلك مديراً عاماً للتعليم بوزارة التربية والتعليم من عام 1987 إلى 1997، ثم شغلت منصب مدير عام التخطيط والمعلومات التربوية بوزارة التربية والتعليم من عام 1997 إلى 1998، فإلى توليها منصب مستشارة وزير التربية والتعليم للتقويم التربوي من 1998 إلى 2011. وخلال هذه الفترة من مسيرتها رُشّحت لعضوية مجلس الدولة (الغرفة التشريعية الثانية للبرلمان)، فكانت ضمن أول أربع نساء دخلن هذا المجلس بمرسوم سلطاني في عام 1997 (الأخريات هن: لميس بنت عبدالله الطائي، والدكتورة سلمى اللمكي، ورحيمة بنت علي القاسمي). وخلال عضويتها بمجلس الدولة، ترأست العديد من لجانه، وشاركت في عدد من المؤتمرات والملتقيات، واختيرت لتمثل السلطنة في الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية من عام 2004 إلى 2012، كما اختيرت عضواً في البرلمان العربي الانتقالي من 2008 إلى 2011.
وتقديراً وعرفاناً لجهودها ومسيرتها الناصعة في خدمة وطنها، منحها السلطان قابوس وسام الاستحقاق في عام 1983، ثم حصلت على وسام الخدمة المدنية الممتازة من جلالته، وعلى العديد من الشهادات والتكريمات من جهات مختلفة.
أما والدها المؤرخ والمترجم، فقد رحل إلى جوار ربه في الثامن عشر من يناير 1982، بعد أن اكتحلت عيناه بوطنه الذي كافح من أجل انفتاحه وازدهاره لسنوات طويلة، تاركاً خلفه للمكتبة العمانية والعربية جملة من الترجمات بلغت 22 كتاباً، كلها من إصدارات وزارة التراث القومي والثقافة بالسلطنة، أهمها:
صحار عبر التاريخ / تأليف أندرو ويليامسون، عمان في صفحات التاريخ / بقلم روبين بيدويل، ملحق البلاد السعيدة / بقلم سير آرثر كيث، ويليون ماريون كروجمان، بريطانيا والخليج 1795 – 1870 / جون. ب كيلى، عمان وشرقي أفريقية / تأليف أحمد حمود المعمري، عمان تاريخاً وعلماء / تأليف إف. سي. ولكنسون، البوسعيديون.. حكام زنجبار / ألفه بالإنجليزية عبدالله بن صالح الفارس، لمحة تاريخية عن المباني الأثرية في مسقط / روت هولى، الأفلاج ووسائل الري في عمان/ تأليف جي. سى. ولكنسون، الخليج.. بلدانه وقبائله/ س. ب. مايلز.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات