أخبار العالم

منتحل اصطناعي – أخبار السعودية – كورا نيو



كان أبي بارعاً في صناعة الطرف، ماهراً في جر الأحاديث إلى مواضع الضحك، حاذقاً في التهكم على ما لا يروقه، جمع في إهابه النحيل فلسفة عميقة لم تبدُ في أسلوبه الساخر فحسب، بل في ما كان يوحي إليه تندره.

لم يكن ذا علم ولا اطلاع واسع، ولكن حكمته كانت حاضرة وفراسته لم تخطئ يوماً، ينظر إلى أحدهم فتخال عينيه كشذرات الضوء التي تنتشر على تخوم قوس قزح مفصحة عن ألوانه، فيما تلتف التجاعيد حولهما كطبقات الرمال محاججة دون تمرسه، وحين يغادر موضعاً يبقى ظله ماثلاً وتبقى كلماته عالقة في كبد المكان.

كان حضوره طاغياً وأينما حل مصطحباً هرته الصغيرة بعينيها الخضراوين وفرائها الرمادي، كانت الأحاديث تتهادى بألوانٍ زاهية لتطوق من حوله، يتصاعد دخان غليونه كتيار الهواء الجبلي لتعبر كلماته من خلاله فتدفع العقل لأن يكتشف نفسه، ويدرك أن ما انبعث عن طبقات الدخان لم يكن سوى رصاصة اصطدمت بفكرته.

كان ما يقوله شاقاً ولكنه ممتع، وسرعان ما يتشكل كصورة تحفر في الذاكرة، كان يبسط نفوذه من خلال ذلك المخلوق الذي لا يُرى ويَعبر دون أن يلحظ أحد رائحته، جُمَلُهُ مترعة بالتورية وأحياناً بالمحسنات الجمالية طباقاً وجناساً، لا يشدد على حرف أو يبرز كلمة، بل كانت جُمَلُهُ تخرج بنبرة واحدة لكنها تؤمي برأسها وتلوح بيديها معرّفةً عن نفسها، ولذلك كان الجميع يتوق إلى وقع صوته وأثر كلماته ليس لطرافتها فحسب، ولكن لأن لها سمتاً وبعداً فكرياً يستطيب اكتشافه.

عاش أرملاً لأمد طويل، وبقي عصياً إزاء الألم والبؤس اللذين عادةً ما يورثهما الفقد، ولم يحتفظ من ماضيه سوى بقنينة عطر فارغة.

وفيما كانت طفولتي وإخوتي فوضوية بسبب غيابه المتكرر، كان يحاول تنظيمها من خلال طرفه وتهكمه، ويمرر من خلالها نصحه ويمزج بها توجيهه.

عندما سرقت قبعة أخي ذات مساء، بادر إلى إخباره دون أن أعلم، وحين مررت إزاءه معتمراً إياها قال لي: هذه القبعة تظهر وجهك نحيلاً كالسنجاب وأذنيك أطول مما هما عليه وكأنما اقتُصتا لك من رأس فيل، فامتقع وجهي خجلاً وفطنت لما عناه.

وعندما سرق أخي جوربي، قال له إن قدميه تبدوان كقدمي البطريق مكففتين وبمخالب حادة وكأنهما جناحا خفاش وأنه يسير بهما كالسلحفاة، فأعادهما لي فوراً.

اختمرت أحاديثه في ذاكرتي ونَمَت تشبيهاته في مخيلتي وظلت كالرائحة التي تصدر من بين أغصان العنب لا تفارق ذهني، كما بقيت أنفاسه الثقيلة تحمل كلماته وتسكبها في روعي حتى أصبحت أرى الآخرين من خلالها وأنظر إليهم بها.

مؤخراً قرأت نصاً قصصياً لأحدهم لم يبدُ لي أصيلاً، بل بدا وكأن روبوتاً وظف خوارزمياته ليعيد إنتاج أنماط متشابهة ويولد نصوصاً معلبة، ولا أعلم لماذا بدا لي الروبوت كمعدن منطفئ يحمل وجه سنجاب وأذني فيل، فيما بدت قدماه كقدمي البطريق مكففتين وبمخالب حادة وكأنهما جناحا خفاش، لكني اكتشفت أني كنت أقرأ بعيني أبي.

أخبار ذات صلة

 




المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى