الأمن ليس قصة تُروى.. بل مؤشرات تُثبت – أخبار السعودية – كورا نيو

في مقال الزميل تركي الرجعان بعنوان «بريطانيا.. هل يقاس أمن الدول بجريمة قتل؟»، والمنشور بتاريخ 10/8/2025 بصحيفة «عكاظ»، جاءت الصياغة بلغة رشيقة وسرد متماسك، وهو ما يُحسب له من حيث البناء الأدبي. غير أن المقال افتقد إلى جوهر المسألة وهو الدليل على ما تم تضمينه في مقاله. فعندما يكون الحديث عن أمن الدول ومكانتها، لا تكفي العاطفة، بل لا بد من مؤشرات وبيانات موثقة. فالأمن ليس قصة تُروى، بل مؤشرات تُثبت. فرأيت أنه من المناسب أن أقدّم هذا الرد لتوضيح أبعاد المسألة، وتصحيح بعض الانطباعات التي وردت، وإبراز أن الحكم على أمن الدول لا يكون بالسرد الأدبي، وإنما بالتحليل المؤسسي المبني على البيانات.
لا يختلف اثنان على أن الجريمة ظاهرة بشرية لا تنعدم في أي مجتمع، مهما بلغ من التطوّر، فالتاريخ الإنساني كله شاهد على أن الجرائم رافقت المجتمعات منذ نشأتها. لكن الفارق بين دولة وأخرى لا يُقاس بمجرد وقوع الجريمة، بل بحجمها النسبي في المجتمع، وبآليات الردع والعقاب، وبقدرة الدولة على استعادة الثقة بسرعة بعد أي حادثة. هنا تتبدى قوة الدولة أو ضعفها. ولهذا فإن اختزال أمن بريطانيا أو غيرها من الدول في حادثة قتل واحدة يظل تبسيطاً مخلاً لا يعكس الواقع المركب. فالمعيار العادل أن نضع أي حادثة في إطارها الإحصائي، ونقارنها بالمعدلات العالمية، لا أن نرفعها إلى مستوى التوصيف الشامل لدولة كاملة.
استند المقال إلى استمرار الابتعاث السعودي إلى بريطانيا باعتباره شهادة ضمنية على أمنها. وهذه رؤية تحتاج إلى تدقيق أكبر. فالابتعاث قرار سيادي وإستراتيجي، غايته في الأصل أكاديمية وتنموية، تخضع مخرجاته لتقييمات دورية تتجاوز الجانب الأمني. نعم، من المؤكد أن الدولة لا تغامر بأبنائها، وهي تزن المخاطر بدقة، لكن استمرار الابتعاث لا يعني منح أي دولة صك أمان مطلق. يكفي أن نتذكر أن المملكة علّقت الابتعاث في فترات سابقة عن بعض الدول لأسباب صحية أو سياسية أو أمنية، ما يدل على أن القرار مرن ويُراجع باستمرار. وبالتالي، فإن وجود مبتعثين سعوديين في بريطانيا هو مؤشر على ثقة متوازنة، لكنه ليس دليلاً حاسماً على انعدام المخاطر.
ومن المثير أن المقال، رغم نقده للخطاب الشعبوي، وقع في فخ مشابه حين اكتفى بالانطباعات والسرديات دون الرجوع إلى مؤشرات موضوعية. في حين أن تقييم الأمن في أي دولة يُبنى على تقارير وبيانات، مثل معدل الجرائم لكل مئة ألف نسمة، نسبة القضايا التي يتم كشفها والتحقيق فيها، كفاءة الأجهزة الشرطية والقضائية، ومستوى الثقة المجتمعية بالمؤسسات الأمنية. هذه المؤشرات ليست ترفاً إحصائياً، بل أدوات معيارية تتبناها تقارير دولية كـGlobal Peace Index وNumbeo Crime Index، وتعتمد عليها الحكومات في رسم سياساتها. ومن دون هذه البيانات، يظل أي حديث عن أمن الدول مجرد انطباع شخصي، مهما صيغ بلغة رصينة.
ويحسن هنا أن نستحضر السياق السعودي. فالمملكة، حين تقع فيها جريمة، كما يحدث في أي مكان في العالم، تبادر أجهزتها الأمنية إلى التعامل معها بسرعة وفعالية وشفافية، وتُعلن نتائج التحقيق بوضوح للرأي العام. هذا النمط المتكرر عزّز ثقة المواطنين والمقيمين في المنظومة، وأكد أن الأمن عندنا ليس شعاراً إعلامياً بل ممارسة مؤسسية راسخة. الأهم أن هذه المنظومة الأمنية لم تُختبر فقط في القضايا الداخلية، بل في ملفات كبرى ترتبط بسمعة المملكة ومكانتها الدولية: في الحج والعمرة، حيث يُدار الملايين من الزوّار في مساحة محدودة بأعلى درجات الانضباط؛ وفي السياحة والاستثمار، حيث أصبح الأمن أحد عوامل الجذب الرئيسة لبيئة الأعمال. هذه كلها شواهد عملية على أن الأمن في المملكة ليس مجرد خطب أو عناوين، بل حقيقة معيشة يومياً، تشهد بها الوقائع قبل الكلمات. ومن هذا المنطلق، فإن المملكة حين تُقيّم أمن غيرها من الدول، فإنها تفعل ذلك بمعايير مؤسسية دقيقة، لا بانطباعات عاطفية أو أحكام متسرّعة.
خلاصة القول: الأمن لا يعني غياب الجريمة تماماً، فهذا أمر غير واقعي، وإنما يعني وجود منظومة متكاملة تمنع التسيب، وتكشف الجريمة بسرعة، وتحاسب الجناة، وتعيد للمجتمع ثقته. الأمن ليس قصة تُروى، بل مؤشرات تُثبت. وحين يغيب الدليل، يبقى كل ما يُكتب مجرد انطباع عابر لا يرقى إلى مستوى الحقيقة.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات