الابتكار وحوكمة سوق العمل أو انقراض اللغة العربية.. – أخبار السعودية – كورا نيو

تابع قناة عكاظ على الواتساب
ما تحقّق للغة العربية من انتشار وتأثير في العالم هو نتيجة لأسباب دينية وتجارية وثقافية تاريخية، لا علاقة لها بالمؤسسات المختصة المعاصرة إلا فيما ندر. ما يقتضي مراجعة سياسات وإجراءات تلك المؤسسات انسجاماً مع متغيّرات قواعد اللعبة.
أغلب ما يبذل من جهد مؤسساتي أو فردي لخدمة اللغة العربية في الوقت الراهن، لا يخرج عن النظرة التراثية والمتحفيّة التقليدية الضيقة للغة العربية، والمبنية على أن اللغة العربية كائن شعري رومانسي يرمز له بمعلقات الشعر الجاهلي والمتنبي وجرير والفرزدق والأخطل وبعض الإبداعات العربية التاريخية مكتوبةً ومخطوطةً أو منقوشةً على الجدران واللوحات بخط الرقعة والنسخ أو الكوفي أو من خلال الشاشات داخل مبنى متحف محصن ومعزول عن المجتمع والحياة والشمس والهواء والتفاعل.
هذه الجهود -على أهميتها- لا بد أن ترى من زاوية أوسع لاستغلال الفضاء الإلكتروني وابتكار أدوات جديدة ومنهجيات عصرية للخروج باللغة العربية من المتحف إلى الشارع والمدرسة والسوق والمصنع والبنك والمجتمع.
لم توظف اللغة العربية في السياحة التي تعيشها كثير من البلدان العربية، ولم توظف العربية في المشروعات الاستثمارية العملاقة والمتعددة في بلادنا ولم توظف اللغة العربية في الإعلام الرياضي أو الإعلام التنموي والمالي والإعلام الغذائي والدوائي، ناهيك عن الغياب المطلق عن المؤتمرات والندوات التي تعقد لدينا أو نشارك بها في العالم، وكذلك الغياب عن إعلام المشاهير والتواصل الاجتماعي.
اللغة العربية بحاجة إلى الحماية كونها هوية وثقافة، لكن اللغة العربية بحاجة أكثر للدخول للابتكار والاستثمار، لا بد من التعامل مع اللغة العربية كأصل اقتصادي وأداة إنتاج ولغة سوق ولا بد من ربط مشروعات اللغة العربية بمؤشرات النمو ومؤشرات التوظيف والابتكار والتنافسية.
لكن الابتكار اللغوي لا يمكن أن ينجح إذا لم يقترن بمردود مهني ومادي، وهذا يعني أن تصبح العربية لغة تشغيل مؤسسي، بما يعنيه ذلك من بنية تحتية وأنظمة مراسلات داخلية وخارجية ذكية باللغة العربية ونماذج عقود بالعربية المبسطة ولوائح داخلية بلغة عربية واضحة وتبسيط مستديم للغة العربية الإدارية وتحويلها إلى لغة عملية مباشرة غير متكلّفة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مختبرات لغوية مؤسسية (Language Innovation Labs) داخل الوزارات والشركات الكبرى وصولاً لابتكار مصطلحات جديدة واختبار لغة المستخدم. هناك حاجة لمواءمة اللغة العربية مع التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي والخدمات الذكية مرجعية علمية مركزية للتقعيد والتحديث.
إن الحاجة اليوم تقتضي حضور الابتكار اللغوي في السوق والاقتصاد، ناهيك عن اتخاذ العربية ميزة تنافسية تجارية وتطوير علامات تجارية بأسماء عربية ذكية، مثلما أن الضرورة تقتضي تحسين لغة الإعلانات ووصف المنتجات وتجربة العميل وتحويل وتمكين العربية لتصبح عنصر ثقة وهوية محلية.
لا بد من تحفيز ريادة الأعمال اللغوية، من خلال دعم شركات تقنية لغوية (LanguageTech وتطبيقات تعلم العربية وأدوات كتابة وتصحيح ذكية وحاضنات أعمال متخصصة في المحتوى العربي، بجانب الابتكار الرقمي والتقني والاستثمار في معالجة اللغة العربية والمساعدات الصوتية العربية الترجمة الآلية بجودة عالية ودعم البيانات العربية المفتوحة مع شريك عالمي داعم للغات في العصر الرقمي مثل اليونسكو.
لا يمكن أغفال الابتكار في المحتوى الرقمي من خلال تشجيع البودكاست العربي والفيديو القصير والسرد التفاعلي، وهذا يستحسن استخدام العربية بأساليب معاصرة شبابية غير متكلّفة، وأن يشمل الابتكار المجتمعي والتعليمي كذلك بحيث يكون تعليم العربية بطريقة مبتكرة، ومنها مشاريع تطبيقية وكتابة محتوى مناظرات محاكاة إعلامية وتمكين الشباب كمبتكرين لغويين بالمسابقات مثل ابتكار المصطلحات والكتابة الرقمية والمحتوى الإبداعي ودعم المؤثرين الذين يستخدمون العربية بجودة عالية.
كما أن الركيزة الثانية الكفيلة بإخراج اللغة العربية من متحف الرومانسي للمؤسسات المعنية باللغة العربية هي الحوكمة والسياسات الداعمة بما يشتمل عليه ذلك من تشريعات تشجع الابتكار اللغوي وحوافز ضريبية للشركات المنتجة للمحتوى العربي وأولوية في العقود الحكومية للمحتوى العربي المبتكر جوائز وطنية للابتكار اللغوي.
اللغة العربية تزدهر حين تدخل السوق، وتُدرَّس بالمتعة، وتُستخدم في التقنية، وتُكافأ بالفرص.
لعل ذلك يتطلب إطاراً مؤسسياً يشمل ربما جهة مستقلة تُنسّق بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، والتعليم، والإعلام، بالإضافة إلى مرجعية عربية مشتركة عبر إحدى مؤسسات جامعة الدول العربية لتوحيد المعايير والمصطلحات المهنية، بالإضافة لوحدات لغوية داخل الوزارات والهيئات تضمن الالتزام بالتطبيق اليومي، فالعربية لغة العمل الأساسية في العقود، الموارد البشرية، والمراسلات الداخلية مع السماح اللغات الأخرى عند الحاجة التشغيلية، دون إقصاء العربية، كما أن سياسات مشتريات حكومية لا بد أن تشترط دعم العربية في الأنظمة التقنية والبرمجيات، وكذلك معايير التوظيف لا بد أن تتطلب كفاءة لغوية مهنية بالعربية للوظائف الإدارية والقيادية.
أما الحوكمة داخل سوق العمل فتقتضي حوكمة الشركات، وذلك بإدراج الالتزام بالعربية ضمن مؤشرات ESG والحوكمة، واستخدام الحوافز بدل العقوبات مثل مزايا ضريبية/تصنيفية للشركات الملتزمة ونماذج تشغيل ثنائية اللغة العربية لغة أصلية، واللغة الأجنبية داعمة (لا بديلة).
المصدر : وكالات



