الباطنية.. حين يتحوّل الدين إلى سردية وأداة للاختراق – أخبار السعودية – كورا نيو

الباطنية ليست مجرد مصطلح فكري أو تيار عابر في تاريخ الإسلام، بل هي حالة مركبة من التأويل المبالغ فيه للنصوص الدينية، تتحول من ممارسة معرفية إلى مشروع سياسي وأمني يهدد استقرار الدول والمجتمعات. تقوم الفكرة الباطنية على أساس مزدوج: ظاهر وخفي؛ الظاهر هو ما يتداوله الناس في النصوص والشعائر، والخفي هو ما يزعم أصحاب هذا الفكر أنه لا يُدرك إلا بمعرفة خاصة أو سرية، لا ينالها إلا الصفوة من أتباعهم. ومن هنا تبدأ الإشكالية: إقصاء عامة الناس عن المعنى الحقيقي، وتسييج المعرفة ببوابات مغلقة تُفتح فقط لمن يخضع لسلطة التنظيم الباطني.
الجذور التاريخية للباطنية
برزت فرق باطنية عديدة عبر التاريخ، من أبرزها القرامطة الذين عاثوا فساداً في جزيرة العرب وهاجموا مكة وسرقوا الحجر الأسود، وهذه الحركات لم تكن مجرد اجتهادات فكرية مختلفة، بل مشاريع سياسية تسعى إلى السيطرة عبر الخطاب الغامض والطقوس السرية.
كان الهدف دوماً أن يُمنح «المعنى الخفي» سلطة فوق النصوص الظاهرة، وبالتالي سلطة فوق المجتمع والدولة.
الباطنية كآلية تفكيك
خطر الباطنية لا يكمن فقط في الجانب العقدي أو الديني، بل في آلية التفكيك التي تؤسس لها.
فهي لا ترى في النصوص الدينية قاعدة لبناء وحدة مجتمعية، بل مادة قابلة لإعادة التفسير بما يخدم مشروعاً مغلقاً.
ومع مرور الوقت يتحول هذا التأويل إلى وسيلة لفصل الأتباع عن محيطهم الاجتماعي، وإقناعهم بأنهم «الصفوة المختارة» هي التي تمتلك الحقيقة.
هذا الشعور بالعُزلة والتفوق معاً هو البذرة الأولى لبناء «حاضنات سرية» يمكن أن تنقلب ضد الدولة والمجتمع.
الباطنية كحاضنة
للتجنيد والإرهاب
هنا تكمن إحدى أخطر النتائج: الباطنية ليست مجرد خطاب غامض، بل هي أساس الحاضنات التي يتم فيها التجنيد باسم الدين، وصناعة الغضب، وخلق المستنقعات الفكرية التي تولد فيها التنظيمات الإرهابية.
فالمعاني الملتبسة والمغلقة تُغذي في نفوس الأتباع شعوراً بالظلم، وبأنهم يملكون رسالة استثنائية لا يفهمها الآخرون.
هذا المناخ النفسي والفكري يتحوّل تدريجياً إلى بيئة خصبة لتفريخ التطرُّف والعنف، حيث يصبح الشباب فريسة سهلة للتعبئة باسم «الحقيقة الخفية» التي يزعم القادة امتلاكها.
وهكذا تنشأ مجموعات مسلحة أو خلايا متشددة ترى في المجتمع عدواً، وفي الدولة خصماً، وفي الدين مطية لتحقيق أهدافها المظلمة.
التوظيف المعاصر للباطنية
في العصر الحديث، لم تعد الباطنية مجرد حركات دينية مغلقة، بل تحوّلت إلى أداة في يد أجهزة استخباراتية ودول معادية.
فالخطاب الباطني بما يحمله من غموض وإغراء بالنخبوية يُستثمر لتجنيد أفراد أو جماعات في الدول المستهدفة عبر شبكات سرية، ووعود بالمعرفة الخاصة، يتم استقطاب الشباب الغاضب أو الباحث عن معنى، ليجد نفسه داخل دائرة مغلقة من الولاء الأعمى.
الدول المعادية تجد في هذا الفكر بيئة مثالية: جماعات صغيرة، متماسكة، مطيعة، تعمل في الخفاء، وتستطيع التغلغل في مؤسسات المجتمع بهدوء. والنتيجة هي خلق «حاضنات بديلة» داخل المجتمع، تمهّد لزعزعة الثقة بين المواطن ودولته.
الباطنية والأجهزة الأمنية
ليس غريباً أن كثيراً من الأجهزة الأمنية حول العالم، خاصة تلك التي تمارس حروب الظل، توظِّف الأفكار الباطنية. فالغموض والتأويل يمنحان أداة مثالية لغسل العقول، وتجنيد الأتباع. كما أن طبيعة التنظيمات الباطنية القائمة على السرية والولاء الشخصي تتقاطع مع آليات العمل الاستخباري.
من هنا نرى أن بعض المشاريع السياسية أو الطائفية في المنطقة تجد في الباطنية ذريعة لاستدامة نفوذها، وتحويل الدين إلى أداة ولاء سياسي.
أثرها على الدول المستهدفة
حين تتغلغل الباطنية في مجتمع ما، فإنها تزرع داخله بذور الشك والانقسام.
فالمجتمع الذي يُبنى على المعنى الظاهر والواضح للنصوص يجد نفسه أمام خطاب يزعم أن ما يفهمه عموم الناس مجرد قشرة، بينما الحقيقة في يد قلة محتكرة. هذا يُنتج أتباعاً يرون أنفسهم فوق المجتمع، ويُنتج مجتمعاً مرتبكاً لا يعرف أين تكمن الحقيقة.
ومع الوقت، يتحول هذا الارتباك إلى ضعف في المناعة الوطنية، ويصبح المجتمع أكثر عرضة للاختراق.
الباطنية وحروب السرديات
في زمن الإعلام المفتوح، لم تعد الباطنية محصورة في الطقوس أو المجالس المغلقة، بل وجدت لنفسها مساحة في فضاء السرديات.
الرسائل الغامضة، الخطابات المزدوجة، الإيحاء بأن هناك «حقيقة أخرى خلف الكواليس»، كلها أدوات لتقويض الثقة في الرواية الوطنية.
وعبر هذا التشكيك المستمر بهدف إضعاف الجبهة الداخلية، وهو ما تريده كل دولة معادية تسعى لخلق الفوضى من الداخل بدل المواجهة المباشرة.
خطورة الاستغلال النفسي
الباطنية تضرب على وتر نفسي عميق: رغبة الإنسان في أن يكون «مختلفاً» أو «أعمق فهماً» من غيره.
هذه الرغبة الطبيعية تُستغل لتغذية شعور بالنخبوية، سرعان ما يتحول إلى ولاء مطلق.
ومع هذا الولاء، يصبح الفرد أداة في يد من يوجهونه، حتى لو كان ذلك على حساب وطنه ومجتمعه، وهنا تكمن الخطورة: تحويل الدين إلى أداة لتشكيل «جنود في الظل» يعملون لصالح أجندات خارجية.
نحو مواجهة الباطنية
المواجهة لا تكون فقط بتفنيد التأويلات الباطنية على المستوى العقدي، بل بتعزيز ثقة المجتمع في معانيه الظاهرة والواضحة، وبناء وعي جمعي يدرك خطورة السرديات الغامضة.
كما أن كشف الروابط بين هذه الحركات والأجهزة المعادية يحصّن المجتمع، ويحول دون انجراف الشباب وراء وعود المعرفة السرية.
في النهاية، الباطنية مشروع اختراق، ومواجهتها مشروع وعي.
الباطنية ليست مجرد اجتهاد ديني، بل مشروع تفكيك اجتماعي وأمني، وأساس الحاضنات التي تُصنع فيها بيئات التطرف والتجنيد والإرهاب. ومن هنا، فإن وعي المجتمعات بمخاطرها، وفضح توظيفها، هو خط الدفاع الأول في حماية الدول من الحاضنات التي تُبنى في الظلام.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات