الصورة السيريَّة – أخبار السعودية – كورا نيو

ما الذي تعنيه تلك (الصورة القديمة) لرجُلٍ أوشكَ على أن يُوصَفَ (مُسنّاً)؟!
فلنرَ هنا ما لا يراه الآخرون، كعادة النصوص عندما تتلصَّصُ على ما وراء الأشياء. إنَّ ما يحدثُ مع هذا الرجل مختلف عما يطرأ على بال كثيرين، فهو لا يتمسَّكُ بأطلال الشباب وأزمنته المتأججة حين يعرِّفُ بنفسه من خلال صورة عتيقة، بل يحاولُ التشبُّثَ باليد التي التقطَتْها على حين غرّة، كأنَّه يقبض على زمنٍ كانت فيه طوعَ يده، أو هكذا يحب التفكير بها؛ تلك (التي) باغَتَتْهُ بالتقاطَةٍ بديعةٍ.
التقطَتْها له في نهار خريفيّ… وكم يشهَقُ ذكراه فيه دفعةً واحدةَ بنَفَسٍ يتيم حين يسترجعها، تلك (التي) باغتته بالتقاطةٍ بديعة، هكذا يصفها وحسب… فاجأته قبلها بزيارة في موعدٍ خاطف، موعد مُجدوَلٍ سلفاً لعارضٍ صحيّ ما عاد يذكر تفاصيله الآن، ولعله برئ بمرآها.
هذه الصورة تحديداً تعني له ما لا تعنيه سيرته الذاتية، فالسيرةُ الذاتية بشكلها الروتيني موافقةٌ نوعاً ما للصور الرتيبة لأصحابها، وهي ما ينتظره كثيرون من الممسوسين بهوس التطابقات بين الحقيقة والواقع الظاهر للعيان، بينما هناك أشكال عديدة للواقع لا تظهر تحت الشمس، وهذا شأن شخصي يستمدُّ حلاوته من التحفُّظِّ على التفسيرات والتبريرات؛ شأن الرجل عينه مع صورته الشخصية المختارة للتعريف عنه في مواقعه وتطبيقاته.
في نهاره الخريفي القديم؛ أخبرَها عن انتظاره لنتائج التحليل، وعن جلوسه في حديقة المشفى، لعله قال: «ساعة وربع تقريباً وستظهر النتائج».
تردَّدَ على المختبر بضع مرات حتى لمحَ الضيق في وجه المختصّ، ولا شيء آخر يفعله في انتظارٍ بِزُرقَة الممرَّات وروائحها الباردة العقيمة، فاتجه إلى فناء أخضر يسَعُ انتظاراته وخيالاته صَدْرًا وأُفقًا.
لم تتمالك نفسها وهي قريبةٌ من موعده، فكان لقاءَهما الأول بلا تخطيط. موعد داخل موعد، مفاجأة داخل يوم رتيب عاديّ… شيء يفوت أعين الناس ولا يفوت قلبٌ حيّ…
أثناء جلوسه على كرسي إسمنتي تشرَّبَ رطوبةَ الرَّيِّ في وقت سابق؛ باغتَتْهُ من الخلف، وهكذا ظهرت فجأة كما اختفت، سحبت هاتفه وهو يكتب لها، ثم ضحكت…
شيء ما أصابه بالصدمة فلم يلتفت، أما هي؛ فقد خشيت التسبُّبَ بأي صفاقَةٍ مترتِّبة على الاشتباه بالسرقة، فهدأت سريعاً بعد سحبها لهاتفه بالضحكة نفسها التي أدمنها؛ إذ كانت تجيب عن كلماته شفهيّاً لا كتابياً هذه المرة: «حتى أنا تأخرتُ عن تناول وجبتي مثلك تماماً…»، ثم أعادت الهاتف إلى يده المتجمدة. وحين أحجمَ عن تلقُّفِ هاتفه؛ التفَّتْ حول الكرسي بخفّة، واجهته بعينين حانيتين، ثم جلست وهو متصلِّبٌ في مكانه يحاول استيعاب الموقف، ووضعت هاتفه بجانبه.
كانت هادئة فعلاً، تحاول التريُّث أمام هذا الكمّ الجارف من السعادة. سكتت مثله قليلاً، ثم مدَّت يدها تجاه يده ليطمئنَّ، قبضت على كفه حتى استرخى، شعر بقوة مشاعرها تنساب في يده، تُكرِّرُ استعمالَ فِعْلِ الأمر، ولا يبدو هذه المرة منفّراً وهو طوع صياغتها وبصوتها: «اهدأ… اهدأ…».
استكانَ قليلاً، والصمتُ سيِّدُ المكان، بل الصدمة سيدته المستبدّة، وبعد دقيقتين أو أكثر؛ قالت له: «عجزتُ عن تقبُّل فكرة انتظارك وحيدا وأنا قريبة منك… أعتذر إن فاجأتُكَ!». وهكذا أمضيا جُلَّ موعدهما… تقريبا… بكلمات قليلة جدا، تتعسَّفُ الذكرياتُ في تأويلها حتى اللحظة.
تأخَّرَ التقاطُ الصورة قليلا، فالتقاطُ الأنفاس أولى. سارت معه -تلك (التي) باغَتَتْهُ بالتقاطَةٍ بديعة- في الأروقة التي ذرَعَها قبل مجيئها، فقَدَ مكانَ المختبر فقادتْ خطوتَهُ إليه، تعرَّفتْ على المكان بفعل الإرشادات حين أضاعَ رشده، وتلك سعادتها الثانية أو الثالثة.
نسي نتائج موعده بعد دخوله على الطبيب، واضطرَّ إلى مهاتفته بعد يومين. لقد كان مشغولاً بسعادته، وهو ما يُضاف إلى قائمة سعادتها في يوم واحد. هكذا تتكثَّفُ السعادةُ حين تأتي حتى لا تكاد أن تبقي شيئاً للأيام الأخرى.
لا يتذكَّرُ جلَّ ما حدث إلا كما يتذكَّرُ ظلالاً أو خلفية ثانوية لمشهد يهيم بنفسه. ولعلَّ الصورةَ احتفظتْ بما يلحُّ عليه بالتذكُّر، فاليدُ التي امتدَّتْ لالتقاطها اقتحمتْ الصورةَ قليلاً، ولا يحدث ذلك دائماً، بل لم يحدث معه هو بالذات قط، وهذا ما لفَتَ نظره ليتذكَّرَ؛ ذلك أنَّ الفنانَ غائب عن اللوحة، والكاتب قد شيَّعوه بعد تشريحه مراراً، كما قتلوا الناقد إثر ذلك. أمَّا النَّحَّاتُ فمزهوّ بعمله حتى نسي التوقيع، والشاعـر يحلق بعيداً؛ إذ يدرك سرَّ توقيعه الخاص بالكلمات، ويبقى المصوِّر متمرداً دائماً ويجرِّب كل مرة قتلَ نفسه بطريقة ما، أو ربما غيره من يحاول… المصور أكثر المبدعين جنوناً، فمحكُّ إبداعهِ جزء دقيق جداً من الثانية يحتاج إلى اقتناص بارع. كلهم يتنافس على ذلك حدَّ الموت، أو حدَّ الحياة! وهو يدرك خطورة الصورة بأكثر من وجهٍ حتى مع هذه الالتقاطة، فما زالت خطيرةً بوجوهها العديدة مهما تخفَّت أجزاؤها وتراكمت في صندوق الزمن.
الصورة ذاتها -كلما راجعَ ظروف التقاطها- تكتمل في عقله فجأة، وتهرب مثل صاحبتها، كمنامٍ يسابق النسيان؛ الأمر الذي يُضاعِف اهتمامَهُ بها، يشعرُ بها تُخفي أكثرَ مما تظهره، وتلفت نظره إليها عمداً كطفلةٍ تلاعِبُُهُ الغمَّيضة.
تنقلب ملامحه في ثوان معدودة كطقس خريف، فما إن تباغته الذكرى حتى ينغمس فيها حدَّ النخاع. لقد ختمَ الخريفُ بظلاله على الصورة، فما زالت تلك (التي) ترحل داخل أعماقه تشدُّهُ نحوها من يده.
ضحكتها انعكست على وجهه الذي استرخى حتى ما عاد يُعرَف، يدها لم تتركه بغضِّ النظر عن سنوات الغياب… وسامتُهُ في الصورة وسامة عاشق، ونظراته الدافئة ما زالت لها وحدها. في الحقيقة وجهه بارد، ولا يوافي ملامحَهُ بأي حديث شخصي قد يجعل له حضوراً خاصاً إلا في صورته التعريفية الشهيرة.
وحين صار التعرف عليه متعذِّرا لما آل إليه بعد مرور السنوات، أو بعد رحيلها! أدركَ أنها انعكست عليه أكثر من اللازم، حتى تكاد أن تكون هويّته امرأة غائبة؛ تستبقي جزءاً من يدها في الصورة أثراً على جريمة كاملة.
خطورة الصورة ما زالت في تزايُدٍ حتى أحاله إلى سؤال يدور حول هوية التدمير؛ أتراه فعلاً جمالياً؟ هل يمكن أن ينطوي التدمير على جمالية ما؟
لعلَّ الصور لم تلتقط ذلك ببلاغة الكائن الذي كان عليه فترة لقائهما معاً. لو أنها موجودة الآن لأمسك بيدها، وبصمَ على ملامح وجهه بإصبعها، لعلها تبقى عليها أكثر، أو تفهم مقدار ما أوغلت في إبداعها بالتقاطتها الرائعة له، فأكثر المبدعين مجدا من جهلوا مقدر ما تراكِمُهُ إبداعاتهم فيما حولهم… مثلها هي، المرأة (التي) التقطت صورته حتى صار يُعرِّف عن نفسه بها. وربما مثله هو أيضاً، من أوشك على أن يُوصَف (مُسنّاً) ويُلام دائماً على تمسُّكِهِ بصورة قديمة يمكنه تغييرها، بينما يتعذَّر عليه ببساطة تقليب هاتفه لاختيار صورة أخرى لا تشكِّلُ له شيئاً، فهم لا يفهمون أن تلك الصورة تعني ما لا تعنيه سيرته الذاتية، فسيرتُهُ برتابَتِها توافِقُ ملامحه الحاليَّة، توافِقُها ببلاغةٍ لم يلتقطها له أحدٌ بعدُ.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات