الطيران والثقافة.. السفر في ذاكرة الغيم – أخبار السعودية – كورا نيو

نعايش اليوم ولادة مفاهيم مختلفة، فالطيران ما عاد يكتفي بنقل المسافر من محطة إلى محطة، بل صار يسعى لمرافقته في رحلة أطول؛ من الفضول إلى السؤال إلى الانبهار، ومن بطاقة الصعود إلى المخيّلة إلى السحاب.
لعقود، ظل الطيران وسيلة نقل حديثة، لكنّه في السنوات الأخيرة تجاوز نقل الأجساد والمواد وأصبح وسطاً نشطاً لحمل الثقافات وتبادل الفنون وتعزيز القيم الحضارية المشتركة بين الشعوب؛ لذا سعدتُ وأنا أقرأ قبل يومين خبر توقيع اتفاقية تعاون إستراتيجية بين طيران الرياض ووزارة الثقافة، هذا الالتقاء بين الأجنحة والفكر يبشّر بالتحليق نحو آفاق جديدة من المعنى.
فكرة التعاون بين شركات الطيران والمؤسسات الثقافية ليست جديدة، فعلى سبيل المثال أطلقت الخطوط السعودية العام الماضي مبادرة «فنجال القهوة السعودية» بالتعاون مع وزارة الثقافة، وهي قبل ذلك بسنوات طويلة جسّدت هويتنا بتفاصيل خلّاقة كالمصلّى ودعاء السفر والقهوة والتمر، خارجياً نجد أن طيران الاتحاد ارتبط بعلاقه إستراتيجية مع متحف لوفر أبوظبي، ولدى الخطوط اليابانية مبادرات كثيرة لترويج التقاليد اليابانية، كما تعاونت الخطوط الفنلندية مع متحف «آلتو» لتزيين طائراتها من الداخل برسوم مستوحاة من الفن الاسكندنافي، والأمثلة كثيرة غير أن الأبرز هو «مهرجان طيران الإمارات للآداب» الذي أقيمت نسخته السابعة عشرة في فبراير الماضي وضم مئات الفعاليات، و36 جلسة شارك بها 160 كاتباً وحضرها الآلاف.
شركات الطيران الكبرى فهمت أن المنافسة لم تعد على المقاعد والرفاهية إنما أصبحت تشمل أيضاً الانتماء وخلق الدهشة، كما أن (الشراكات الثقافية) هي جزء من صناعة الصورة الذهنية للناقل، وكذلك جزء من إستراتيجية أعمق تهدف لنحت الذاكرة البصرية والوجدانية داخل المسافر.
لم تعد الطائرات أجساماً معدنية تحلّق في الأجواء، بل قطع من الوطن تحملُ معها لونه وعطرة وموسيقاه، لقد صار الطيران تعبيراً عن شخصيات البلدان وصورتها، ولم يعد ربط الطيران بالثقافة ترفاً أو دعاية، بل منهج يسهم في تشكيل القوة الناعمة للدول.
في السعودية، ومع تسارع التحولات، تبدو الفرصة مواتية لتوسيع هذا التعاون واستثماره بشكل أفضل، فالمملكة بما تمثله من ثقل تاريخي وثقافي وحضاري، وبما تعيشه من نهضة هي الأجدر بأن تكون نموذجاً عالمياً في هذا المسار، وأتمنى أن تكون الصورة مكتملة لدى وزارة الثقافة والهيئة العامة للطيران المدني، فهناك الكثير من المكاسب الوطنية داخل الإطار.
يمكن لكل مطار أن يكون محطة حضارية متكاملة، ويمكن لكل رحلة تقلع من الرياض أو جدة أو العلا أو نيوم أو البحر الأحمر أو أبها أن تكون بمثابة «سفير ثقافي متنقل» يرى فيه العالم هويتنا الراسخة المتجددة وموروثنا الأصيل المتنوع، وإنسان هذه الأرض الذي يطاول بطموحاته عنان السماء.
يجب أن يكون هناك تناغم بين الجهات المسؤولة في الطيران والثقافة والسياحة والرياضة والترفيه وغيرها؛ لأن التجربة لا يمكن أن تكون فعّالة ما لم يؤمن الجميع بأن الطيران ليس بنية تحتية أو تقنية فقط، بل هو أيضا بنية وجدانية، إنه أحد أكبر المسارح اليومية التي تمر عليها ملايين الأنفس.. فلماذا لا نضيء خشبته؟
لنمنح الطيران لغته الجديدة بوصفه تجربة ثقافية حيّة، ولنترك للمحركات أن تحكي، وللسماء أن تكتب، فهناك بين غيمتين وطن صغير يُحلِّق بثقافتنا.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات