الفارق الخفي! – أخبار السعودية – كورا نيو

ما بين التصنيع والصناعة فرق شاسع، فالأول هو المسار التنموي المستدام الذي يغيّر موقع الأمم على مستوى الاقتصادي العالمي. اليوم لم يعد عدد المصانع بمعناها الضيق هو المحرك الأساسي لاقتصادات الدول، فما بين الصناعة والتصنيع يكمن الفارق. هذا الفارق كثيراً ما يُغفل في النقاشات الاقتصادية، لكنه يمثّل جوهر أي مشروع تنموي يسعى لبناء قاعدة صلبة للنمو المستدام.
الصناعة يمكن أن تنشأ بقرار سريع؛ نستورد المعدات، نستقطب المستثمرين، نوفر الطاقة والأراضي، فنحصل على مصانع عاملة ومنتجات سريعة الدخول إلى الأسواق. هذا النموذج قد يحقّق إيرادات ويضيف قيمة على المدى القصير، لكنه يظل هشّاً لأنه يعتمد على الخارج في التقنية والمعرفة والابتكار. في المجمل هو أقرب إلى نشاط تجاري كبير منه إلى مشروع حضاري طويل الأمد.
أما التصنيع فهو مسار أكثر عمقاً وتعقيداً. التصنيع يبدأ بالإنسان، من خلال تعليم نوعي يخرّج مهندسين وفنيين قادرين على التطوير لا التشغيل فقط، وبتمويل ذكي يوازن بين تشجيع المخاطرة وحماية الصناعات الناشئة، وبسياسات تراكمية تبني شبكة من الموردين المحليين، ومراكز بحثية، وثقافة إنتاجية تجعل المجتمع أكثر استعداداً للإبداع والعمل.
التصنيع يقاس بمدى قدرتنا على الإضافة من خلال الأدوات البحثية والتطويرية. بمعنى أدق هو انتقال من دور المستهلك للتقنية إلى المشارك في إنتاجها. من دون هذا التحوّل، تبقى المصانع مجرد جزر معزولة تتوقف قيمتها عند حدود التشغيل والتصدير فقط. أما مع التصنيع، فإن المصنع يصبح جزءاً من منظومة معرفية متكاملة، ترفع الإنتاجية، وتخلق وظائف ذات قيمة عالية، وتزيد القدرة التنافسية للدولة.
هناك تجارب عالمية كبيرة انتهجت مسار الصناعة وامتلكت مصانع لعقود طويلة، لكنها لم تتحوّل إلى قوى صناعية كبرى. والسبب يعود لكونها ظلت عالقة في استيراد التكنولوجيا والاكتفاء بتشغيلها. على سبيل المثال المكسيك لديها قاعدة صناعية ضخمة خصوصاً في السيارات والإلكترونيات، لكن دورها ظل محدوداً كقاعدة للتجميع مرتبطة بالسوق الأمريكية، لم تتحوّل إلى قوة ابتكار تقني. كذلك البرازيل أقامت مصانع كبيرة منذ السبعينيات في مجالات السيارات والصلب والطائرات، لكنها لم تصل إلى مستوى الدول الصناعية الكبرى بسبب ضعف الاستثمار في البحث والتطوير والتعليم التقني.
في المقابل، دول أخرى جعلت من التصنيع خياراً إستراتيجياً، فبنت جامعات متخصصة، ومؤسسات تمويلية قوية، وبرامج بحث وتطوير، حتى أصبح لها دور ومركز عالمي في سلاسل القيمة. لعل أقرب مثال نستطيع أن نستشهد به هي كوريا الجنوبية، حيث بدأت ببرامج تصنيع محلي في ستينيات القرن الماضي، ركّزت على التعليم والتقنية، واليوم يشار إليها كأيقونة في صناعات السيارات، والسفن، والإلكترونيات. إضافة لذلك تايوان تحوّلت من مصانع بسيطة في السبعينيات إلى مركز عالمي لأشباه الموصلات.
ربما السؤال الذي يحير البعض عند قراءة هذه السطور: هل التصنيع يتناقض مع العولمة؟ الحقيقة أن التصنيع ليس خروجاً من العولمة، بل هو حماية ذكية من سلبياتها. هو الذي يحوّل الانفتاح من مصدر تهديد للتبعية إلى فرصة للنمو والتمركز في مواقع أكثر قيمة في السوق العالمية. بمعنى آخر؛ الصناعة تجعلنا مستهلكين للعولمة بينما التصنيع يجعلنا صانعين داخل العولمة.
بالنسبة لنا في المملكة، وفي ظل رؤية 2030، استطعنا أن نستقطب استثمارات عالمية في القطاع الصناعي في خطوات متسارعة ومهمة، ولكن نحتاج اليوم أن نضمن أن تكون هذه المصانع لَبِنَات في مسار تصنيعي متكامل، يصنع المعرفة محلياً، ويضيف قيمة حقيقية، ويحوّل المملكة من مجرد سوق جاذبة للصناعة إلى مركز إقليمي للتصنيع والإبداع. إن الرهان على التصنيع، لا على الصناعة وحدها، هو ما سيحدد موقعنا المستقبلي في الاقتصاد العالمي. فالصناعة قد تمنحنا عوائد سريعة، لكن التصنيع وحده هو الذي يمنحنا القدرة على الاستمرار، ويجعلنا نصعد درجات سلم الإنتاج العالمي بثقة واستقلالية.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات