القانون الجوي.. من باريس إلى الرياض – أخبار السعودية – كورا نيو

القانون الجوّي واحد من أهم التخصصات التي تضبط قطاع الطيران العالمي، غير أنه من أقل التخصصات انتشاراً، ربما لأن أنظمته جديدة نسبياً حيث لم تظهر إلا في القرن العشرين، مقارنة بالقانون البحري أو المدني أو التجاري التي بدأت منذ قرون بعيدة، وربما لأن الجامعات التي تُدرّس القانون الجوي محدودة، وغالباً ما يكون مادة ضمنية في برامج أوسع مثل القانون الدولي العام أو القانون التجاري الدولي، أو لأنه مجال يخص قضايا محدّدة مثل سيادة الأجواء وعقود النقل ومسؤولية شركات الطيران عن الحوادث والأمتعة، وكذلك الجرائم على متن الطائرات، وهذا مجال أضيق مقارنة بفروع القانون الأخرى بالتالي لا يستهوي عدداً كبيراً من الدارسين.
القضايا في النقل الجوّي قليلة لكنها معقّدة، فهي ليست يومية مثل قضايا العقار أو التجارة، لكنها حين تحدث تكون ضخمة كالتعويضات التي تصل لمئات الملايين أو النزاعات الدولية، لذلك لا يحتاج السوق إلى أعداد كثيرة من المختصين، كما أن ارتباطه بصناعة الطيران يجعل المتخصص فيه بحاجة لمعرفة دقيقة بعالم الطيران، من أنظمة الملاحة إلى تشريعات هيئات الطيران المدني والاتفاقيات الدولية، وهي معرفة تقنية قانونية مزدوجة تجعل الدخول لهذا المجال أصعب من غيره، ولهذا يتركّز وجود غالبية الخبراء في مراكز الطيران الكبرى مثل أوروبا وأمريكا، بينما الدول التي لا تملك صناعة طيران متقدّمة يقل فيها الاهتمام بتخريج متخصصين.
بدأ الاهتمام بإيجاد قوانين للجو بعد الحرب العالمية الأولى حين أصبحت الطائرات وسيلة نقل شائعة، فاجتمعت الدول في باريس عام 1919م وأعلنت أن لكل دولة سيادة مطلقة على أجوائها، ثم جاء عام 1944م، حيث اجتمعت أكثر من خمسين دولة في شيكاغو لتوقّع الاتفاقية التي صارت دستوراً للطيران المدني الحديث، وأُسست المنظمة الدولية للطيران المدني «ICAO» لتكون المرجع الذي يضبط تفاصيل الملاحة والأمن والسلامة، ومع ذلك لم يسلم القانون الجوي من الخروقات، فالحوادث التاريخية كانت تضيف له باستمرار، ومعظمها للأسف كان مأساوياً.
في عام 1955م انفجرت طائرة الخطوط المتحدة الأمريكية المتجهة من دنفر بعد أن وضع أحدهم قنبلة لقتل والدته طمعاً في التأمين، هذه الحادثة دفعت المحاكم والكونغرس لتشديد قوانين أمن المطارات والتأمينات، وفي عام 1969م حين اختطف فلسطينيون طائرات تابعة لشركة TWA الأمريكية وأخرى لشركة Swissair وأوقفوها في صحراء الأردن، ظهرت قضايا جديدة تتعلق بالتعويض عن الأضرار البدنية والنفسية، ليصبح مصطلح «القرصنة الجوية» مادة حاضرة في نصوص القانون، ومنها بدأ العالم يتعامل مع الاختطاف كجريمة دولية تستدعي تعاوناً عابراً للحدود.
لم تكن كل القضايا مأساوية، فبعضها حمل طابعاً طريفاً، كما حدث عام 1948م حين وجدت محكمة بريطانية نفسها أمام قضية غريبة بعد أن وُلد طفل على متن رحلة تابعة للخطوط البريطانية فوق المحيط الأطلسي، لتصبح مسألة الجنسية موضع جدل قانوني، هل يُمنح جنسية بلد الإقلاع، أم بلد الطائرة، أم البلد الذي تعلوه الطائرة لحظة الولادة؟ وهكذا نشأت سوابق قانونية تُدرّس حتى اليوم تحت باب «الجنسية في الفضاء الجوي».
معظم قوانين النقل الجوّي كانت ذات طابع سياسي، لكنها مع الزمن تحوّلت لتشمل تفاصيل شديدة الخصوصية، سواءً ما يتعلّق بالشركات الناقلة أو المطارات أو قضايا الشحن والتأجير والرهن ومشاكل التأخير والأضرار.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على الطيران، بات القانون الجوي شبكة معقدة تغطي كل الجزئيات، حتى الالتزامات البيئية التي تفرض على المطارات خفض انبعاثاتها الكربونية، والنصوص الجنائية التي تعاقب على تهريب الممنوعات أو تهديد سلامة الطائرات، مع ذلك تبقى القاعدة الذهبية التي لم تتغيّر منذ باريس وشيكاغو، وهي «أن الأجواء ملك للدولة التي تعلوها، لكنها في الوقت نفسه ميدان مشترك لا يستقر إلا بتعاون الجميع».
هناك اتجاهان رئيسيان في النظرية القانونية، اتجاه يرى أن القانون الجوّي مستقل عن بقية الفروع؛ لأن الطيران ظاهرة جديدة نسبياً بالإضافة إلى كونه قانوناً دولياً، واتجاه آخر يرى أن معظم أحكامه مأخوذة من القانون البحري، إذ إن الطائرة والسفينة تتعرضان لنفس المخاطر ولا فرق كبير بين الموانئ الجوية والبحرية، وأياً كانت النظرية الأصح، فإني أرى أن قطاع الطيران السعودي بحاجة إلى مختصين من أبناء الوطن يكونون خبراء في هذا الجانب، خاصةً مع ما يحمله المستقبل من تطور هائل في تطبيقات التنقل الجوّي عبر التاكسي الطائر والدرون، وحيث تستعد السعودية لتكون أحد مراكز الطيران الكبرى في العالم.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات