المقاطعة: موقف مشروع أم فوضى رقمية؟ – أخبار السعودية – كورا نيو

مع كل موجة رقمية جديدة، تتكاثر الأصوات قبل أن تكتمل الحقائق، ويعلو الجدل قبل أن يتضح المسار. وفي هذا الزخم المتسارع، باتت «المقاطعة» ظاهرة تتجاوز معناها التجاري أو الأخلاقي، لتتحوّل أحياناً إلى سلوك جماعي يُدار بعاطفة لا بعقل.
اللافت أن أغلب من يدفعون بهذه الحملات أو يرفعون لواءها لا يظهرون بأسمائهم الصريحة، بل يتحركون من خلف حساباتٍ مجهولة أو منابر حماسية ترفع الشعارات أكثر مما تزن العواقب. فتجد أصواتاً تنادي بالمقاطعة المطلقة، وأخرى تزايد على غيرها في الرفض، دون أن تتبصّر بما يمكن أن تُلحقه هذه النداءات من ضررٍ على مؤسساتٍ وطنية أو أفرادٍ أبرياء أو حتى على بيئة العمل والاستثمار في الداخل.
وفي الأسابيع الماضية، تناوبت على منصّات التواصل موجات مقاطعة متتابعة، حملت شعارات مختلفة ولكنها تشابهت في النغمة والأسلوب. تبدأ القصة عادةً بمقطعٍ عابر أو تصريحٍ مجتزأ، ثم لا تلبث أن تتحوّل إلى عاصفة رقمية يتدافع فيها المؤيدون والرافضون، ويُحكم فيها على الأشخاص أو المؤسسات بحدّة تفوق حجم الواقعة ذاتها. هذه الحملات وإن بدت عفوية في ظاهرها إلا أن كثيراً منها يُدار بنَفس واحد، وكأن ثمة من يصيغ مسارها ويوجّهها نحو نتيجةٍ مسبقة، دون اعتبارٍ لمبدأ التحقق أو لآثار الاتهام الرقمي على الأفراد والكيانات.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة ليس اختلاف الآراء، بل تآكل مبدأ التثبت الذي دعا إليه النظام وأكدته التوجهات الوطنية في التعامل مع المحتوى الرقمي. فحين تتحوّل المنصات إلى محاكم، وتصبح «الترندات» أحكاماً، فإننا ننتقل من فضاء التعبير إلى فضاء التهشيم. وبين التعبير والتهشيم خيطٌ رفيع، لا يُمسكه إلا الوعي.
إن مسؤولية صون الوعي الجمعي لا تقع على الدولة وحدها، بل على كل مستخدمٍ يسهم بكلمةٍ أو مشاركةٍ في تشكيل الرأي العام. فالدولة حين نظّمت المحتوى الرقمي وسنّت أنظمة الجرائم المعلوماتية، لم تفعل ذلك لتقييد الناس، بل لحمايتهم من الانزلاق إلى فوضى تُضعف الثقة وتشوّه سمعة المنصات الوطنية. إن أعظم ما يمكن أن نقدّمه اليوم ليس مقاطعةً جديدة، بل وعياً جديداً يزن المعلومة قبل أن يرفعها، ويُفرّق بين النقد البنّاء والتحريض الخفي.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن كثيراً من أبناء هذا الوطن، حين يتفاعلون مع هذه الحملات، إنما يفعلون ذلك بدافعٍ صادقٍ من الغيرة على المصلحة العامة وحماية القيم الوطنية. وهذه النوايا تستحق التقدير، لكنها بحاجةٍ إلى وعي يوازي صدقها. فالمواطَنَة الواعية لا تعني السكوت، بل أن نتحقق قبل أن نحكم، وأن نبحث عن المصدر قبل أن نشارك، وأن نترك المجال للجهات المختصة كي تؤدي دورها وفق النظام. فهكذا نحافظ على قوة صوتنا، دون أن نسمح لأحد بأن يوظفه في الاتجاه الخطأ.
فالقوة الحقيقية ليست في حجم الصوت، بل في صفاء النية ودقة الموقف. والمجتمعات التي تبني وعيها على التثبت لا على التهييج، هي التي تصنع لنفسها احتراماً يدوم، وعدالةً لا تهتز مهما تعالت الأصوات من حولها.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات