أخبار العالم

النظرية الأدبية بين برجماتية الإمتاع وسمو الروح ورياضة الذهن – أخبار السعودية – كورا نيو



ثمة حراك جدلي متجدّد حول ماهية الأدب ووظيفته، وذلك لبُ الُّلباب فيما يعرف اصطلاحاً بالنظرية الأدبية، وقد تداخل ذلك مع العديد من المستجدّات في هذا المجال وما أثير حوله من حوار، وتقاطعت النظرية الأدبية مع ثقافة الصورة وما داخلها من مفاهيم عرض لها عدد من النقاد، مثل الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه عن الثقافة التلفزيونية والنقد الثقافي وغيرهما، ثم ما شجر من خلاف حول روايات (أسامة المسلم)، وما أثارته فيما يتعلق بما انطوت عليه من نزوع إلى التسلية وتزجية الفراغ كما يرى البعض.

تُعدّ النظرية الأدبية إطاراً مفاهيمياً لدور الأدب وتفسيره وتقييمه. وقد تنوّعت منطلقاتها بتنوّع العصور، وراوحت بين اعتبار الأدب وسيلة للإمتاع، أو أداة لتهذيب النفس والروح، أو وسيلة لتحفيز الذهن وإعمال الفكر. ولعلّ الجدل بين براغماتية الإمتاع وسموّ الروح ورياضة العقل تمثّل ثلاثية مركزية لفهم تحوّلات النظرية الأدبية قديماً وحديثاً.

فالنظرية الأدبية هي منظومة من الأفكار والمفاهيم التي تسعى إلى تفسير ماهية الأدب، ووظائفه، وكيفية تلقيه وتأثيره، وتشمل النظرية الأدبية دراسات الشكل والمحتوى، ودور اللغة، ووظيفة الأدب؛ (أخلاقية، تعليمية، فنية، نفسية، اجتماعية) أما وظيفة الإمتاع فقد برزت في الفكر اليوناني عند أرسطو، حيث اعتبر أن الشعر يحاكي الواقع من أجل «اللذة الجمالية» عند الرومان والنهضويين الأوروبيون الذين أعادوا التأكيد على دور الأدب في التسلية والترويح عن النفس.

وفي النقد العربي القديم: أدرك الجاحظ وابن طباطبا وظيفة الإمتاع، واعتبراه عنصراً ضرورياً لجذب المتلقي، لكنه لا ينفصل عن هدف تعليمي أو أخلاقي. وفي النقد الحديث والمعاصر: تجلّى الاتجاه البراغماتي (النفعي) في بعض التيارات الغربية كالنقد الثقافي ونقد ما بعد البنيوية، حيث يُنظر إلى الأدب كأداة لتفكيك الأنظمة السياسية أو دعم قضايا اجتماعية، ولكن عبر متعة التلقي والدهشة الفنية.

وقد رأى أفلاطون أن الأدب -لا سيما الشعر- قد يُفسد الروح إن لم يُهذّب وفق معايير المدينة الفاضلة؛ لكنه آمن بدوره التربوي عندما يُوجَّه وفق الفضيلة.

وفي التراث الإسلامي والعربي: برزت فكرة الأدب كوسيلة لتهذيب النفس وسموّ الروح عند أمثال عبدالقاهر الجرجاني الذي ربط البلاغة بصفاء العقل، والزمخشري الذي استعمل النص الأدبي في خدمة العقيدة. وفي العصر الحديث: ظهرت تيارات النقد الروحي أو الفلسفي (كأفكار بول ريكور أو ت.س. إليوت) التي تنظر إلى الأدب كوسيلة لتجاوز المادي والانفتاح على قضايا الإنسان الوجودية، كالموت، والمعنى، والخلود.

وقد اعتُبر الأدب ممارسة عقلية تحفّز التفكير المنطقي والتأمل، ومن هنا كان البلغاء يعكفون على التمرن على الفصاحة كما يتمرن الرياضيون على تقوية عضلاتهم. وفي النقد الإسلامي يرى علماء البلاغة والنحو أن الأدب علم يُقوّي الذكاء والتمييز العقلي، فكان التدريب على المقامات، والمناظرات، ومحاجة المعاني من رياضات العقل.

في الفكر الغربي الحديث: مع البنيوية ثم التفكيكية، صار الأدب فضاءً لتدريب الذهن على تفكيك المعاني وإعادة بنائها، واللعب باللغة والدلالات، مما حوله إلى حقل معرفي معقّد ومفتوح دائماً على التأويلات.

ثمة رؤية تركيبية ترى أن الأدب لا يقتصر على وظيفة واحدة، فهو في لحظة واحدة قادر على أن: يُمتعك فنياً (براغماتية الإمتاع) ويسمو بك إنسانياً وأخلاقياً (تهذيب النفس) ويُشغّل ذهنك ويجعلك تعيد التفكير في القيم والمعاني (رياضة الذهن)؛ أما المدارس الأدبية الحديثة مثل الحداثة وما بعد الحداثة وسّعت مفهوم الأدب ليشمل كل هذه الوظائف في آن، ورفضت الفصل القاطع بينها.

فالنظرية الأدبية ليست مجرد تأملات تجريدية، بل هي تجلٍّ لفهمنا العميق للأدب ووظائفه. وقد أظهرت القراءة التاريخية أنها تحوّلت بين مرجعيات الإمتاع، والسمو، والتمرين الذهني؛ ومن هنا فإن النظرية الأدبية اليوم مطالبة بالحفاظ على هذا التكامل الثلاثي،؛ الذي يعكس ثراء الأدب بوصفه فناً ومعرفة وتربية.

وقد عرف الأدب عبر العصور بأنه مجال نخبوية الفكر واللغة، يُنتَج داخل فضاءات ثقافية مغلقة نسبياً ويُوجَّه إلى صفوة المجتمع من المتعلمين والمثقفين، إلا أنّ القرن العشرين وما تلاه شهدا تحوّلاً جذرياً في بنية الإنتاج الأدبي، إذ تزايد التوجه نحو الأدب الشعبي؛ من حيث اللغة، والموضوعات، والجمهور، ووسائل التلقي، نتيجة لتغيرات اجتماعية وتكنولوجية وثقافية عميقة. هذا التحول يستدعي الوقوف على أسبابه وتجلياته في الأدبين العربي والعالمي.

أما الأدب النخبوي فهو الأدب الذي يعتمد على رموز ثقافية ومعرفية عميقة، ويتوجه إلى طبقة مثقفة قادرة على فك شفراته الجمالية والفكرية، ويُنتج غالباً بلغة عالية ومجردة، من الأمثلة على ذلك أدونيس وصلاح عبدالصبور ويوسف الخال ومحمود درويش ومحمد الثبيتي وعلي الدميني وغيرهم في الشعر العربي الحديث، وأما الآداب الغربية فهي حافلة بذلك.

ومن خصائص أدب النخبة كثافة الرمزية وتعقيد الأسلوب والانشغال بالميتافيزيقي والفلسفي وضعف الانتشار الجماهيري.

أما الأدب الشعبي فلا يقصد به -بالضرورة- أن يكون أدباً عامياً أو فلكلورياً، بل هو أدب يتبنى لغة بسيطة نسبياً، وموضوعات قريبة من هموم الناس اليومية، ويستهدف جمهوراً أوسع، ويُتداول عبر وسائل إعلام شعبية (كالرواية الرقمية، منصات التواصل، الدراما…).

ومن أسباب انتشاره في هذه المرحلة التاريخية ارتفاع نسب التعليم وانتشار القراءة وثورة الإنترنت والمنصات الرقمية والتغير في وظيفة الأدب من الجماليات المجردة إلى تمثيل الواقع، وتقهقر الأيديولوجيات الكبرى، وبروز النزعات الفردية واليومية، وازدياد الطلب الجماهيري على أدب يسير وسريع التلقي يساير طبيعة الحياة بإيقاعها المتسارع.

ومن مظاهره في الأدب العربي تبسيط الأسلوب والتخلّي عن التعقيد البلاغي واستعمال العامية أو الفصحى الدارجة وما يطلق عليها (اللغة الفورية).

ومن نماذجها روايات أحمد خالد توفيق (رجل المستحيل، ما وراء الطبيعة) التي استقطبت شرائح واسعة من الشباب وروايات أسامة المسلم في الأدب السعودي الذي ذاع صيته، ويتميز هذا النوع من الأدب بالتركيز على الخيالي والعجائبي ومن موضوعاته الحب، القهر الاجتماعي، الدين، قضايا المرأة وقد تهيأت له وسائل النشر والتلقي؛ ومنها الرواية الإلكترونية، وكتب البودكاست، والأدب المسموع والأدب التفاعلي، وعرف كتابه بأنهم من خارج المؤسسة الأكاديمية، مثل حسن كمال، ودعاء عبدالرحمن، وعرف بنقده المؤسسة الثقافية التقليدية: وبالتمرّد على سلطة المؤسسة الأدبية الرسمية وبروز ظاهرة «الكاتب النجم» على إنستغرام وفيسبوك.

وشهدت الآداب الغربية صعود تيار «الرواية الواقعية الشعبية» (مثل روايات نيكولاس سباركس ودان براون وازدياد شعبية أدب الجريمة والرعب)، وفي أدب ما بعد الحداثة شهدنا تفكيك الحواجز بين الجدّ والهزل، بين النخبوي والشعبي، مثال: روايات كورت فونيغت التي تدمج السخرية بالأسلوب الفلسفي، وأدب المنصات الرقمية:

منصات القصص القصيرة وولادة نجوم أدبيين من فضاء غير تقليدي والاهتمام بأصوات المهمشين صعود أدب السود، النساء، المهاجرين، مثال روايات روكسان وتشيما ماندا ناغوزي

ويُعدّ التحول من النخبوي إلى الشعبي ظاهرة معقدة تتداخل فيها عوامل ثقافية وتكنولوجية واجتماعية، وهو تحوّل لا يُعبر عن تراجع الأدب، بل عن إعادة تشكيله وفق شروط جديدة، قد تفتح أفقاً أوسع وأكثر ديمقراطية، لكنها تفرض تحدياً على النقاد والمؤسسات الثقافية لحماية الجودة والابتكار.

أخبار ذات صلة

 




المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى