الهبة بين المشروع والمصطنع.. قراءة في مشهد العقار – أخبار السعودية – كورا نيو

منح المشرّع الهبة مكانة خاصة في الأنظمة، إدراكاً لدورها الإنساني في دعم التكافل العائلي، وتيسير انتقال السكن بين الأقارب من الدرجة الأولى بعيداً عن تعقيدات البيع والشراء. فالأب الذي يهب ابنه منزلاً، أو الأخ الذي يُعين أخته بمسكن، يمثل الوجه الأصيل للهبة؛ غرضها اجتماعي مشروع، يتناغم مع رغبة الدولة في تعزيز روابط الأسرة وتيسير الحياة الكريمة.
لكن ما تشهده السوق العقارية مؤخراً من موجات «هبات» ضخمة، تزامناً مع تطبيق رسوم الأراضي البيضاء، يطرح تساؤلات جادة حول مشروعية هذا الاستخدام. إذ لم تعد الهبة تقتصر على تلبية حاجات سكنية لأقارب مباشرين، بل اتسعت لتشمل نقل أراضٍ بمليارات الريالات، بعيداً عن إطار الورثة أو روابط القرابة الطبيعية. مثل هذه الممارسات لا تُجسّد روح الهبة، بل تُفرغ النظام من مضمونه، وتحوّل الرسوم إلى مجرد ورقة يمكن الالتفاف عليها.
خطر هذه الظاهرة أنها لا تُنتج حركة سوقية حقيقية، بل تشوّه المؤشرات العقارية بارتفاعات وهمية، وتُبقي الأراضي البيضاء مجمّدة بلا تطوير، في الوقت الذي تُوحي البيانات بوجود تداول نشط. هذا الانفصال بين الواقع والمؤشرات يضر بالمستثمر الجاد، ويُضعف ثقة السوق، والأخطر أنه يعيد إنتاج الاحتكار بوسائل شكلية، وهو ما يقوّض الهدف الإستراتيجي من النظام.
الحل لا يقتصر على منع التحايل الفردي، بل يتطلب معالجة شمولية؛ أولها إعادة ضبط تعريف الهبة بحيث لا تُسقط الالتزامات المالية والتنظيمية، بل تنتقل كاملة مع الأرض. وثانيها إخضاع الهبات الكبرى لنظام تتبع إلكتروني يكشف الأنماط غير الطبيعية ويُحد من استخدامها خارج سياقها المشروع. وثالثها تفعيل دور البنوك والجهات التمويلية كشريك رقابي، بحيث يُحرم من التسهيلات من يتهرب عبر الهبات الصورية. وأخيراً، فرض عقوبات متدرجة تصل إلى تجميد الأرض أو حرمان المالك من الامتيازات العقارية عند تكرار المخالفة.
إن معالجة ثغرة الهبات ليست تقييداً لحق اجتماعي أصيل، بل حماية لجوهر هذا الحق، وصيانة لغرض النظام الذي وُجد لتحقيقه؛ دفع السوق نحو التطوير لا التحايل. ولعل الدرس الأعمق أن الإصلاح الحقيقي لا يقف عند إصدار الأنظمة، بل يتجّدد بسد الثغرات ومواجهة الأساليب الملتوية بحزم، بما يضمن أن يبقى القطاع العقاري أداة تنمية واستدامة، لا مجالاً للتحايل أو الجمود.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات