تركي الفيصل… حين يتكلم التاريخ بلغة الحاضر – أخبار السعودية – كورا نيو

في حضور الأمير تركي الفيصل، يتبدّد شعور الملل الذي قد يرافق الحوارات الطويلة؛ فبقامته الرفيعة وخبرته المتراكمة، لا يروي تفاصيل عابرة بقدر ما يُعيد صياغة الذاكرة في صورة تحليل حاضر. ولعل هذا ما جعل لقاءه الأخير محط أنظار المتابعين، لا لأنه ظهور إعلامي عابر، بل لأنه نافذة على عقل سياسي يعرف المنطقة بعمق ويقرأها بتجرد.
حين توقف الأمير عندما يُسمّى بالاتفاقيات الإبراهيمية، لم يكن الاعتراض على مضمون سياسي فحسب، بل على محاولة إلباس الصفقات السياسية ثوب القداسة. فذلك يُربك البوصلة الأخلاقية، ويُحوِّل الدين إلى غطاء لغوي لقرارٍ نفعي. المدرسة السعودية، كما يقرأها تركي الفيصل، تُحاكم الاتفاقيات بميزان النتائج على الأمن والاستقرار وحقوق الشعوب، لا ببلاغة اللافتة ولا براقة التسمية.
ومن هذه النقطة انتقل الأمير ليؤكد مجدّدًا على الموقف السعودي الثابت تجاه فلسطين. لم يكن الأمر ترديدًا لشعار مألوف، بل تذكيرًا بأن هذه القضية لم تغب عن بوصلة الدولة منذ عهد الملك فيصل الذي ارتبط اسمه بها عالميًا، مرورًا بالملك خالد، وصولًا إلى الحاضر بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حيث ظل الموقف ثابتًا في جوهره مهما تغيّرت الظروف. ومع كل النداءات التي حاولت أن تُلبس المملكة ثوب المساومة أو تروّج لفكرة التطبيع مع إسرائيل، جاء صوت الرياض في مؤتمر نيويورك الأخير ليقلب المعادلة: لم يكن التطبيع مع إسرائيل هو العنوان، بل كان حفظ حقوق الفلسطيين هو الرسالة. وهنا تظهر براعة القيادة في إعادة توجيه البوصلة الدولية نحو الحق الثابت، وتأكيد أن السعودية لا تساوم على قضية الأمة الأولى بل تجيّش العالم كله لتذكيره بها. إن موقف المملكة من فلسطين ليس ورقة تفاوضية عابرة، بل مبدأ راسخ من مبادئ سياستها الخارجية؛ ولهذا جاءت عباراته قاطعة لكل شك أو تشكيك.
ولأن حديثه لا يكتفي باستعادة التاريخ، فقد وجّه خطابه للداخل والخارج معًا. عباراته تقطع الطريق على من يتوهم أن المواقف الوطنية قابلة للمساومة. هناك ثوابت لا تُهادن ولا تُساوَم، سواء في الموقف من فلسطين أو في غيرها من القضايا السيادية. وهذه الرسالة المزدوجة، بقدر ما تخاطب الآخر، فإنها تبعث طمأنينة في الداخل بأن السياسة ليست ملعب تنازلات بل ساحة صيانة للمبادئ.
وربما من أكثر اللحظات دلالة في اللقاء استحضاره واقعة زيارته لجهيمان العتيبي في المستشفى بعد أحداث الحرم. فما إن رآه حتى طلب منه أن يتوسط عند الملك خالد ليعفو عنه، فجاء الرد قاطعًا: «ما تخسى إلا أنت». تلك الجملة وحدها تكشف جوهر الموقف؛ فلا وجاهة تُغني أمام جرمٍ مسّ قدسية الحرم، ولا تعاطف يبرر التساهل مع من تجرأ على أعظم المقدسات. لقد كان موقفًا يختصر شخصية لا تقبل المهادنة مع التطرف، وترى أن التساهل مع الجريمة خذلان للقيمة ذاتها.
هكذا، جاء حديث تركي الفيصل خليطًا من السياسة والتاريخ، من النقد والتحذير، من الذكرى والتجربة. لم يكن مجرد رواية للأحداث، ولا خطابًا للمجاملة، بل قراءة واعية تُضيء حاضر السياسة بذاكرة التاريخ. وحين يتكلم الكبار، فإنهم لا يضيفون خبرًا إلى الأخبار، بل يضيفون معنى إلى التاريخ.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات