حين يمتحن المطر الطيران..! – أخبار السعودية – كورا نيو

تابع قناة عكاظ على الواتساب
هذا الأسبوع، تعيش السعودية حالة مطرية منعشة تملأ القلوب بالبهجة، لكنها في الوقت ذاته تضع قطاع الطيران في حالة انتباه، فالمطر مهما بدا رقيقاً من نوافذ البيوت، يظل عنصراً مؤثراً في معادلات الطيران، تاريخاً وحاضراً، تخطيطاً وتشغيلاً، وسلامةً قبل كل شيء.
حين تهطل السماء، لا يتغيّر المشهد على الأرض وحدها، بل تتبدّل لغة الجو بأكملها، ويعيد الطيران ترتيب علاقاته القديمة مع الغيم والمطر.
منذ البدايات الأولى لاستخدامات الطيران المدني، كان المطر خصماً عنيداً، طائرات البريد التي كانت تجوب أجواء الأمريكتين وأوروبا في بدايات القرن العشرين (وشكّلت مادة خصبة للروايات الأدبية)، لم تكن تمتلك رفاهية المجازفة؛ هياكل هشّة، وأجنحة صغيرة، ومحركات محدودة القدرة، وملاحة بدائية تعتمد على النظر والمعالم الأرضية. في تلك الفترة، كان المطر يعني ببساطة: «لا طيران».
لم يكن الخطر في قطرات الماء ذاتها، بل في ما تحمله معها من سحب منخفضة، ورياح متقلبة، وانعدام للرؤية. كانت الرحلات تؤجَّل، والبريد ينتظر، والظروف تفرض كلمتها بلا نقاش.
مع تطوّر صناعة الطيران تغيّر كل شيء، وبقي المطر حاضراً لكن بصيغة مختلفة. الهياكل المعدنية، ثم المركّبة، وأنظمة الملاحة المتقدمة، والرادارات الجوية، وأنظمة إزالة الجليد، كلها أعادت تعريف العلاقة مع الطقس. لم يعد المطر مانعاً، لكنه ظل مؤثراً لا يُستهان به.
في الطائرات الحديثة، المطر محسوب في كلّ شيء؛ فالبدن مصمم لتحمّل الأمطار الغزيرة، والزجاج الأمامي للقمرة مزوّد بأنظمة تسخين تمنع تشكّل الجليد وتضمن رؤية جيدة، والمحركات مجهّزة لاستيعاب دخول كميات ضخمة من الهواء المحمّل بالماء دون أن تتأثر، كما خضعت أنظمة القياس والسرعة لاختبارات قاسية لضمان دقتها حتى في أسوأ الأحوال.
المطر في الطيران واجهة لعناصر أخرى أكثر حساسية، كالعواصف الرعدية، والرياح الهابطة، والقصّ الهوائي، وانخفاض مستوى الاحتكاك على المدارج، وهنا تنتقل القصة من السماء إلى الأرض.. من الطائرة إلى المطار.
على الأرض، تعكس تصاميم المطارات أيضاً هذه العلاقة الدقيقة مع الطقس، أنظمة تصريف المياه في المدارج ليست تفاصيل ثانوية، بل عنصراً أساسياً في سلامة السفر؛ فأي تجمع للمياه قد يؤدي إلى الانزلاق، حيث تفقد الطائرة تماسك عجلاتها على سطح المدرج عند الهبوط أو الإقلاع، لذلك تُصمَّم المدارج بميول دقيقة، ومواد سطحية مدروسة، وأنظمة صرف قادرة على التعامل مع كميات كبيرة من السيول خلال وقت قصير.
كما أن أنظمة الإضاءة الملاحية، وأجهزة الهبوط الآلي، ورادارات الطقس، أصبحت العمود الفقري للتشغيل الآمن في الأجواء الماطرة.
الحالات المطرية تظهر آثارها المباشرة على حركة الطيران وجداول الرحلات، سواء من ناحية التأخير، أو تحويل المسارات، أو الانتظار في الجو، أو حتى إلغاء الرحلات، وهي قرارات مزعجة للمسافر، لكنها في الحقيقة انعكاس لثقافة سلامة صارمة، ترى أن «ساعات الانتظار» أهون من «لحظة مخاطرة».
المطر ليس عدوَّ الطيران، بل أحد اختباراته الدائمة، فهو امتحان لقدرة الإنسان على فهم الطبيعة، والتكيّف معها، واحترام حدودها. وكما تعلّم الإنسان كيف يشق طريقه بين السحب، تعلّم أيضاً أن يتوقف حين يجب التوقف، وأن ينتظر حين يكون الانتظار حكمة.
إنّ ذاكرة الطيران تحتفظ بسجلّ ثقيل من المآسي والحوادث التي شكّلت منعطفات قاسية في تاريخ الصناعة، وأعادت صياغة معايير السلامة، ودفعت إلى مراقبة حدود التشغيل، وطريقة قراءة الأجواء قبل دخولها.
لم تكن تلك الحوادث بسبب المطر، بل نتيجة سوء تقدير، أو تجاوز لحدود الطقس الآمن؛ لذلك أصبح التعامل مع الطقس علماً يُدرّس، ويُختبر، ويُعاد اختباره. فالطيارون اليوم يخضعون لتدريبات دقيقة ومكثفة على محاكيات متقدمة، تُعيد خلق أسوأ السيناريوهات الجوية من أمطار غزيرة، وعواصف رعدية، وانخفاض حاد في الرؤية، يتعلمون من خلالها كيف يتخذون القرار الصحيح تحت الضغط، ومتى يُكملون، ومتى يكون التراجع هو الخيار الأكثر احترافية.
في كل مرة يهطل المطر، يعيد الطيران درسه الأول، السماء ليست طريقاً مفروشة بالورود، بل فضاء يُدار بالعلم والانضباط، والالتزام الصارم بالسلامة، وقبل كل شيء بالتوكل على الله سبحانه، والأخذ بالأسباب.
المصدر : وكالات



