زلزال في الإليزيه.. حكومة اليوم الواحد تتلاشى – أخبار السعودية – كورا نيو

تعيش فرنسا اليوم واحدة من أكثر لحظاتها السياسية اضطرابًا في تاريخها الحديث، بعد الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة وحكومته التي لم يمضِ على تشكيلها سوى يوم واحد، في السادس من أكتوبر ٢٠٢٥، في خطوة صادمة فتحت الباب على مصراعيه أمام أزمة سياسية عميقة وغير مسبوقة. لقد كانت هذه الاستقالة بمثابة القشة التي قصمت ظهر الائتلاف الحكومي الهش، وكشفت عن حجم الاختلالات البنيوية التي تراكمت خلال الأشهر الماضية داخل المشهد السياسي الفرنسي. فمنذ لحظة الإعلان عن أسماء الوزراء الجدد، تفجّرت موجة من الاعتراضات الحادة من قبل قوى سياسية أساسية رأت في التشكيلة الحكومية تجاهلاً للتوازنات التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة. وما جعل الوضع أكثر تعقيدًا هو أن الاعتراضات لم تأتِ فقط من الخارج، بل انطلقت من داخل الحكومة نفسها، إذ أعرب وزير الداخلية، وهو شخصية ذات وزن سياسي وأمني كبير، عن رفضه لتعيين شخصيات معينة في مواقع وزارية حسّاسة، معتبراً أن وجودها يهدد الأمن القومي. هذا الرفض العلني من داخل الفريق الحكومي أضعف موقف رئيس الحكومة بشكل كبير، وأفقده القدرة على الدفاع عن خياراته السياسية أمام البرلمان والرأي العام. أمام هذا المشهد المأزوم، تدخل الرئيس إيمانويل ماكرون لمحاولة احتواء الأزمة، ومنح رئيس الحكومة المستقيل مهلة حتى يوم الأربعاء لإجراء مفاوضات عاجلة مع مختلف القوى السياسية من أجل التوصل إلى صيغة حكومية جديدة أكثر توازناً. غير أن هذه الأزمة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق السياسي الذي سبقها، فالمسؤولية الأساسية تعود في جوهرها إلى الرئيس نفسه الذي ارتكب خطأً إستراتيجياً حين قرر الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة قبل أشهر في محاولة لإعادة ترتيب التوازنات داخل البرلمان بما يمنحه هامشاً أوسع للمناورة. كانت تلك خطوة محفوفة بالمخاطر، وجاءت نتائجها كارثية، إذ أدت إلى برلمان أكثر انقساماً وضعفاً في التحالفات، ما جعل تشكيل أي حكومة مستقرة مهمة شبه مستحيلة. لقد عبث ماكرون بالبنية الحزبية الهشة أصلاً، وخرج بنتائج عكسية وضعته اليوم أمام مأزق سياسي غير مسبوق. إلى جانب ذلك، تكشف هذه الأزمة عن انفصال عميق بين الطبقة السياسية الفرنسية والواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب الذي تعيشه البلاد. ففرنسا تواجه أزمة مالية طاحنة، ودَيْناً عاماً متصاعداً، وضغوطاً متزايدة لاعتماد سياسات تقشفية قاسية من أجل استعادة ثقة الأسواق الأوروبية والدولية. لكن الطبقة السياسية تبدو منشغلة بصراعات السلطة وتقاسم الحقائب، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى إصلاحات جذرية وإدارة حازمة. هذه اللامبالاة بالوضع الاقتصادي تنذر بتفاقم الأزمة المالية وتقلص هوامش المناورة السياسية في المستقبل القريب. والأخطر من ذلك أن الأطراف السياسية الفاعلة، سواء في الائتلاف الحاكم أو في المعارضة، تفتقر إلى الشجاعة السياسية اللازمة لتحمل مسؤولياتها التاريخية. فالجميع يدرك أن إنقاذ البلاد يتطلب قرارات غير شعبية تشمل تقليص الإنفاق العام وإعادة النظر في برامج الدعم الاجتماعي والإصلاح الضريبي، لكن لا أحد يجرؤ على خوض هذه المواجهة خوفًا من الغضب الشعبي أو خسارة المواقع السياسية. هذه الجبن الجماعي يفرغ العملية السياسية من مضمونها الإصلاحي ويحول الحكومات المتعاقبة إلى كيانات إدارية عاجزة عن اتخاذ القرارات الصعبة. وهكذا، فإن الأزمة الراهنة لا يمكن اختزالها في أزمة تشكيل حكومة أو فشل رئيس وزراء في بناء تحالف برلماني، بل هي أزمة نظام سياسي فقد توازنه الداخلي، وطبقة سياسية تعيش في عالم موازٍ بعيد عن التحديات الاقتصادية الحقيقية، ورئيس راهن على مغامرة انتخابية انتهت إلى نتائج عكسية. وفي ظل غياب الإرادة السياسية لإجراء إصلاحات مؤلمة لكنها ضرورية، فإن أي حكومة جديدة ستجد نفسها محاصرة بالمعوقات نفسها، وستظل البلاد تدور في حلقة مفرغة من الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعمق حالة اللايقين وترسم ملامح مرحلة جديدة أكثر هشاشة واضطراباً في تاريخ الجمهورية الخامسة.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات