أخبار العالم

عبدالعزيز ناصر.. المؤسس للحركة الموسيقية في قطر – أخبار السعودية – كورا نيو



إذا كان للحركة الفنية الموسيقية في قطر أب، فهو بلا شك الفنان القدير الراحل عبدالعزيز ناصر، الذي بدأ مشواره وهو شاب يافع من حي «الجسرة» المواجه لساحل بحر الخليج.. ذلك الساحل الذي نشأ على ضفافه وسبح في مياهه وعزف على أمواجه أجمل الألحان والسمفونيات. ففي عام 1966، وهو لم يتعدَّ سن الرابعة عشرة أسس ومجموعة من أصدقائه من هواة العزف والغناء «فرقة الأضواء» الموسيقية التي لم يكن لها وقتذاك مسرح أو مقر، فوجدت ضالتها لدى «نادي الجسرة». في أحضان هذا النادي الاجتماعي الثقافي العريق كبرت الفرقة وكبر هو معها، وراح ينقش اسمه بثقة على جدرانه وزواياه لحناً ونغماً آسراً ممزوجاً بحب الوطن وعشق ترابه.

عبدالعزيز ناصر أحمد العبيدان فخرو، المولود في الدوحة في الأول من يناير 1952، الذي وافته المنية في 22 يوليو 2016 عن 64 سنة إثر وعكة صحية فصُلي عليه ودُفن في اليوم نفسه في مقبرة مسيمير، قضى خمسين عاماً من حياته منخرطاً في العمل الموسيقي، هواية وتطوعاً ودراسة وبحثاً في التراث القطري أو تدويناً وتوثيقاً وتسجيلاً لأجمل الألحان العاطفية والوطنية والتراثية. ولم يشأ الرجل الجميل في محيّاه، الأنيق في ملبسه، النبيل في أخلاقه، الرفيع في ذوقه وفنه، المتواضع في سلوكه، أن يرحل دون أن يترك للمكتبة العربية والخليجية كتاباً يروي فيه سيرته العطرة مع إهداء إلى «الحالمين بعالم أفضل». إذ إنه رحمه الله كتب سيرته وأشرف على تدقيقها قبل وفاته، ثم طُبعت في كتاب جرى إطلاقه خلال أمسية ثقافية في «سوق واقف» في مارس 2018 بحضور حشد من رجال الفكر والفن والإعلام، يتقدمهم زملاؤه وأحبابه ورفاقه في «نادي الجسرة»، ملعب فنه ومنارته الأولى.

وأثناء «مهرجان العود»، الذي أُقيم بدار الأوبرا في الدوحة في مايو 2020، تذكر الحضور سيد العود القطري الغائب بجسد والحاضر بفنه، وسُجل عن رفيق دربه الباحث مرزوق بشير قوله: «لو كان المرحوم مجرد ملحن فهذا بحد ذاته يكفيه، لكنه كان منذ صباه صاحب مشروع فني ورؤية واضحة لم تَنْتَبْهَا غشاوة، وكانت رؤيته هي وضع الفن الغنائي لوطنه على خريطة الفن العربي والإنساني»، وأضاف في كلمة كتبها في صفحته على «فيسبوك»: «عبدالعزيز الذي وقف المجتمع مرة ضده، اليوم يقف له مع كل عزف للسلام الوطني». وكانت تلك إشارة ذكية وبليغة إلى بدايات مشوار عبدالعزيز ناصر في الفن التي وُوجهت وقتها بالرفض ووقوف المجتمع ضده لأسباب اجتماعية ودينية، ليتحول المشهد رأساً على عقب بوقوفهم معه وتقديرهم له كلما عُزف السلام الوطني لدولة قطر، الذي يعد أحد أبرز إنجازاته، كونه هو الذي صاغ لحناً في العام 1996 كلمات أول نشيد وطني لقطر من شعر الشيخ مبارك بن سيف آل ثاني.

أخبرنا فناننا في بعض حواراته التلفزيونية أنه عاش طفولة سعيدة ممزوجة بحنان ودلال والديه وإخوته كونه الأصغر سناً في الأسرة، وأخبرنا أيضاً أن أسرته كانت منفتحة على الثقافة والفنون، فتعرف في طفولته على آلتَي العود والكمان وتعلم العزف عليهما، وشغف بمشاهدة الأفلام السينمائية من خلال شاشة عرض اشتراها له والده، لكن العائلة ترددت طويلاً في دعمه لما نما الى علمها أن ابنها في طريقه لاحتراف الموسيقى بسبب ضغوط اجتماعية مُورست عليها. يقول عبدالعزيز إنه واصل تمسكه بالفن كخيار لا بديل عنه إلى أن أذعن ذووه لقراره بتشكيل فرقة الأضواء الموسيقية واقتحام دار الإذاعة بها في بدايات تأسيس الأخيرة في ستينات القرن العشرين، حيث راح مع صحبه من أعضاء الفرقة يقدم الغناء والعزف والتمثيل عبر الأثير بشغف وحماس.

لم يكتفِ صاحبنا بذلك فقط وإنما كافح أيضاً من أجل تغيير النظرة السلبية إلى الموسيقى والموسيقيين داخل مجتمعه، فنراه مثلاً يستلّ قلمه ويكتب في مجلة «الدوحة» مقالات يعبّر فيها عن ألمه وصدمته من مقاومة البعض للموسيقى في القرن العشرين، بينما «كانت الموسيقى عند علماء المسلمين، منذ أكثر من ستة قرون، علماً من العلوم، يجرون عليها أبحاثهم، وتتناولها أقلامهم وأفكارهم بالدراسة والتحليل، ويعقدون علاقة بينها وبين العلوم الأخرى، كعلم الرياضيات والطب وعلم الفلك، وإذا بها في القرن العشرين، تصبح عاراً على دارسها والمشتغلين بها». ويواصل الرجل دهشته فيقول: «وتزداد دهشتي حينما أجد التردد، من رجال العلم والمعرفة ونحن في القرن العشرين، في إدخال مادة التربية الموسيقية، كمادة دراسية، في المراحل الدراسية العامة».

وهكذا، نجده بمجرد إتمام دراسته الثانوية عام 1973 يقرر صقل مواهبه بالسفر إلى مصر للالتحاق بمعهد الموسيقى العربية في القاهرة، الذي منحه شهادة البكالوريوس بتقدير امتياز في عام 1977، ليصبح بذلك أول قطري يحمل مؤهلاً جامعياً في الموسيقى. غير أن الرجل فضّل البقاء في مصر لسنوات أخرى امتدت إلى عام 1980 بغرض الاستفادة القصوى من الكنوز الموسيقية وابداعات الموسيقيين في مصر.

وخلال هذه السنوات، وقبل عودته إلى بلاده، أنتج الكثير من إبداعاته الفنية بالتعاون مع عدد من الفنانين والفرق الموسيقية المصرية، ودوّن ووثّق موسيقياً وغنائياً في ستوديوهات القاهرة التراث القطري في برّه وبحره. بل إنه داوم على التردد على مصر حتى بعد عودته إلى قطر وتوليه منصب «المراقب العام للموسيقى والغناء بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون»، وذلك من أجل أن يستكمل مشروعه الفني. هذا المشروع الذي قالت عنه الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي في تقرير لها منشور في إحدى الصحف سنة 2022 إنه ينقسم إلى مراحل متميزة، منها مرحلة العودة إلى الجذور، المتمثلة في ألبوم (من وحي التراث القطري)، ومرحلة المحاولات الموسيقية البحتة بعيداً عن الغناء، ومرحلة التلحين للأصوات الفردية من نجوم الطرب العرب، ومرحلة الألحان الوطنية، ومرحلة تلحين الشعر.

ففي مرحلة محاولاته الموسيقية البحتة مثلاً نجده يلحّن لمجموعة من الفنانين من مختلف البلاد العربية مثل المغربية نعيمة سميح، والتونسيين لطفي بوشناق ولطيفة، والعراقي ماجد المهندس، والسورية أصالة، والمصريين كارم محمود وريهام عبدالحكيم وهاني شاكر وعلي الحجار ومدحت صالح، والقطريين فرج عبدالكريم وعلي عبدالستار والكويتي عبدالله رويشد، والإماراتية أحلام، واللبنانية سعاد محمد، والسعوديين طلال سلامة وعبدالمجيد عبدالله، والبحريني إبراهيم حبيب. وفي مرحلة تلحين الشعر نجده يلجأ إلى قصائد لكبار الشعراء العرب من أمثال نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد وغيرهم، ليتلمّس في قصائدهم ما يؤرقه من هموم العرب وفي المقدمة بطبيعة الحال قضيتا «فلسطين» و«القدس» اللتان كان لهما نصيب الأسد في ألحانه الشعرية. أما في مرحلة الألحان الوطنية التي تتغنى بحب قطر، فقد أبدع أيّما إبداع في تلحين أغانٍ مثل: «الله يا عمري قطر» لمحمد الساعي من كلمات عبدالله عبدالكريم الحمادي، «قطر يا قدر مكتوب» من كلماته وألحانه وغناء راشد الماجد، «محتار يا بلادي شاغنيلك» من كلمات مرزوق البشير وغناء محمد الساعي، ناهيك عن تلحين نشيد «قسماً بمن رفع السماء» ليكون سلاماً وطنياً للبلاد كما أسلفنا. وأما في مرحلة بحثه وجمعه للتراث الغنائي القطري بهدف إعادة تقديمه بصياغة لحنية متطورة وتوزيع موسيقي ثري، فقد أجاد وأتقن كعادته من خلال قطع فلكلورية جميلة، منها: «الحنايا» (تعكس الروح الأصيلة والهوية الخالصة المرتبطة بالبحر والسفر للغوص على اللؤلؤ) و«يا العايدوه» (تعكس المرح الطفولي المرتبط بعيدَي الفطر والأضحى) و«القرنقعوه» (تعكس أجواء احتفال الأطفال بمنتصف شهر رمضان) و«حناج عيين» (تعكس الأفراح المرتبطة بحفلات الزفاف وليلة الحناء) و«الحية بية» (تعكس الصور المرتبطة بطقس من طقوس الأطفال في قطر ودول الخليج في يوم عرفة). وفي هذا السياق كتبت الباحثة المصرية مروى متولي قائلة: «لم يكن ذهاب عبدالعزيز ناصر إلى تراثه القطري، مجرد رغبة في العودة إلى الجذور، والحنين إلى الأصل وتعميق الارتباط به، بقدر ما كان بحثاً حقيقياً عن كيانه الذاتي الخاص، كموسيقار قطري أولاً، وموسيقار عربي بشكل عام. وتحقيق الالتقاء والتناغم بين الهوية القطرية، والهوية العربية في الموسيقى».

من وحي التراث

وفي السياق نفسه، قال الكاتب إبراهيم المطوع، الذي ألّف كتاب «الموسيقار عبدالعزيز ناصر.. رؤية فنية»، إن ناصر استوحى التراث القطري وقدّمه برؤيته في التلحين والتطوير كذلك التراث العربي الذي أصدر ألبوماً سمّاه «من وحي التراث العربي»، قدّم فيه اللونغا والسماعيات والموشحات تقديماً يعكس رؤيته الخاصة. وتحدث المطوع أيضاً عن جوانب أخرى من عبقرية فناننا فقال إنه اعتمد في تشكيل ملامح الأغنية القطرية الحديثة على مجموعة من العناصر مثل: الاهتمام بالمفردة الشعرية الحديثة، التأكيد على الهوية القطرية في العمل، وابتكار لون جديد في تقديم اللحن، والخروج على شكل الأغنية القديمة التي كانت ترتكز على تكرار الجملة الغنائية الواحدة. وأضاف أن الراحل استخدم في أعماله اللحن البسيط، وابتعد عن التعقيد، فاستطاع أن ينقل الأغنية القطرية بأسلوب مبهر جديد إلى مسار الانتشار، وذلك بتقديمها بلون قريب من لون الأغنية العربية مع الاحتفاظ بالحس والذوق الخليجي، كما استطاع بعبقريته نقل إيقاع «الفجري»، وهو الإيقاع القطري الخليجي البحت في أوزانه وتفعيلاته، إلى العالم العربي في أغنية «آه يا بيروت» بكل سهولة وسلاسة.

لفناننا الراحل عدد من الألبومات الغنائية التي حملت عناوين مثل: «الإنسان والأرض»، «ولهان ومسير» (اسم أغنية عاطفية جميلة بنفس العنوان من كلمات الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وغناء زميله الفنان علي عبدالستار)، «أصدر للورق همي» (اسم أغنية لحنها للفنان القطري فرج عبدالكريم)، «يا قدس يا حبيبتي» (اسم أغنية لحنها للطيفة التونسية من كلمات نزار قباني)، «أحبك موت» (اسم أغنية تتغنى بحب قطر من كلمات الدكتور حسن رشيد)، و«سفينة الأحزان» (اسم أغنية شارك في غنائها مع مجموعة من المطربين القطريين والعرب من كلمات نزار قباني)، وغيرها. كما شارك فناننا في وضع الموسيقى والألحان المرافقة لعدد من المسلسلات التلفزيونية مثل: «أحلى الأيام»، «بنات الفريج»، «الفرسان الثلاث»، «حكايات صلبوخ»، «مغامرات جاسم»، «مغامرات سعدون»، «تناتيف»، «الناس بيزات»، «صار وش كان»، والأجزاء المختلفة من مسلسل «فايز التوش».

أوسمة وجوائز وشهادات تقدير

كان فناننا عضواً في مجلس أمناء أكاديمية الموسيقى في قطر، ومثّل بلاده في عضوية المجلس التنفيذي في المجمع العربي للموسيقى. وعلى مدى مشواره الفني الطويل، حصد العديد من الأوسمة والجوائز وشهادات التقدير، ومنها: جائزة الدولة التقديرية في مجال الموسيقى عام 2006، وسام التكريم من قادة دول مجلس التعاون الخليجي في مسقط عام 1989، وسام التكريم من مهرجان الخليج السابع للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني بمملكة البحرين عام 2001، ومن معهد حلب للموسيقى بسوريا عام 2002، ومن المهرجان العاشر للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني بمصر عام 2004، ومن المجمع العربي للموسيقى عام 2013.

إلى ذلك، حصلت مجموعة من أعماله على الجوائز الذهبية وشهادات التقدير، مثل: أغنية «يا قدس يا حبيبتي» التي حصلت على الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة السابع للإذاعة والتلفزيون 2001، وأغنية «الطفل والعصفور» التي حصلت على شهادة تقدير من مهرجان القاهرة السابع للإذاعة والتلفزيون 2001، وأغنية «تصدق» من أداء لطفي بوشناق التي حصلت على جائزتين ذهبيتين عن أفضل لحن وأفضل أداء من المهرجان العاشر للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني بالقاهرة عام 2004. أما آخر تكريم حظي به قبل رحيله فقد كان حصوله على الجائزة الذهبية من قبل المؤسسة العامة للحي الثقافي (كتارا) أثناء توزيع جوائز النسخة الرابعة من حفل توزيع جوائز الأوسكار للأوبرا والغناء الكلاسيكي، في ديسمبر عام 2014. وفي عام 2017 أصدر الزميل الدكتور أحمد عبدالملك كتاباً من 347 صفحة عن مسيرة الراحل وأعماله وعطاءاته الفنية بعنوان «عبدالعزيز ناصر، رحلة الحب والوفاء». وبعد وفاته تقرر في 24 يوليو 2016 إطلاق اسمه على مسرح الريان، أكبر مسرح مغلق في قطر، والواقع بسوق واقف في العاصمة الدوحة، وذلك تقديراً لجهوده وعطائه وتخليداً لذكراه العطرة.

أخبار ذات صلة

 




المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى