أخبار العالم

لماذا انحسرت الثقافة القومية العربية؟ – أخبار السعودية – كورا نيو



الشاعر والناقد والأديب المصري الأستاذ أحمد عبدالمعطي حجازي كتب في الشرق الأوسط بعنوان «ليست واقعاً فهل هي هدف؟».

يقول أشعر بأننا حتى الآن لم نفكر كما يجب في حاجتنا لثقافة قومية نشارك جميعاً نحن العرب في إنتاجها، ونجعلها هدفاً مشتركاً نلتزم بأدائه، ونستعد له بما نكتشفه وندعمه وننميه من المواهب، وبما نبنيه من مؤسسات، ونوفره من أجهزة وأدوات، وبما ننظمه من نشاط مشترك نتبادل فيه الخبرة، ونحقق به التكامل الذي تتحقق به وحدتنا الثقافية. هذا النشاط لا يزال مفتقَداً حتى الآن. وأنا أنظر إلى الماضي القريب وأقارن ما كانت عليه ثقافتنا القومية، قبل نصف قرن من اليوم بما صارت إليه الآن، فأجد أننا فقدنا كثيراً مما حققناه من قبل.

هذه حقيقة، فقد عشت تلك الفترة الذهبية من تلاقح الثقافات وتبادل المعارف وتكوين خلفية ثقافية حافلة بشتى المعرفة مقارنة بما عليه الحال الآن.

لذا، أشاركه مخاوفه، فعلى الرغم من اتساع الفضاء الإعلامي، وتعدد المنصات التي تسمح بالتواصل الفوري بين الأفراد والمجتمعات، فإن الثقافة القومية العربية تبدو في حالة انحسار وتراجع لم تشهده منذ عقود.

والمفارقة الموجعة أن هذه الظاهرة تأتي في زمن تتقاطع فيه الحواضر العربية افتراضياً أكثر من أي وقت مضى، بينما تتباعد فعلياً على مستوى الفعل الثقافي المشترك، والرؤية الجامعة، والمشروع الحضاري المتكامل.

لقد شهد العالم العربي في منتصف القرن العشرين وبداياته نهضة ثقافية متشابكة الحلقات، صنعت ملامح ما يمكن أن نطلق عليه «ثقافة قومية عربية». كانت هذه النهضة نتيجة جهود واعية، ومبادرات مؤسساتية وأهلية، تضافرت فيها حركة الترجمة، وازدهرت الصحافة والمسرح والفنون، كانت الثقافة حاضرة والتاريخ قائم والمناظرات لا تتوقف في الشعر والنثر والأدب، إضافة إلى الملاحق الأدبية والثقافية، وتفتحت صلات معرفية بين المشرق والمغرب العربيين.

كانت القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وتونس والرباط مراكز متفاعلة، يجتمع فيها المبدعون من مختلف الأقطار، فتخرج الأعمال والنتاجات بروح عربية جامعة، تتجاوز الحدود السياسية وتخاطب وجدان الأمة جمعاء. غير أن المشهد اليوم يكاد يخلو من هذا التفاعل العميق.

انكفأت الأقطار العربية على إنتاج ثقافي محلي الطابع، موجّه في أغلبه لجمهور داخلي محدود، مع افتقار إلى المنابر العابرة للحدود التي كانت فيما مضى تجسّد وحدة الخطاب الثقافي.

وإذا كان الماضي قد شهد صحفاً ومجلات مثل مجلة العربي الكويتية، والمنهل والفيصل والعرب والدرعية السعودية، والمعارف وروز اليوسف وصباح الخير والمصور وآخر ساعة المصرية، والحوادث والشراع والصياد اللبنانية، وغيرها من الملاحق الأدبية والثقافية والسياسية، إضافة إلى مؤسسات تعليمية ذات امتداد عربي واسع، فإن الحاضر يعج بمنصات إعلامية ومنابر رقمية تفتقر إلى المشروع الجامع، وتكتفي بالتغطيات المتفرقة والاحتفالات الرسمية التي لا تترك أثراً يتجاوز زمنها ومكانها.

لا يمكن إنكار أن الوسائل التقنية فتحت آفاقاً غير مسبوقة للتواصل والتبادل الثقافي.

لكن هذه الإمكانات بقيت، في الغالب، رهينة الاستهلاك الفردي السريع، ولم تتحول إلى أدوات لصياغة مشروع ثقافي قومي مشترك. فالمنصات الرقمية الكبرى، وإن كانت تسمح بنشر المحتوى على نطاق واسع، غالباً ما تحكمها خوارزميات تكرّس الانغلاق داخل الدوائر المحلية أو الأيديولوجية الضيقة، وتغذي التشتت بدلاً من التلاقي.

أما الإنتاج الثقافي المنظَّم، القادر على حمل قيم وهوية مشتركة، فقد تراجع لصالح مشاريع فردية أو تجارية إعلانية لا تضع البعد القومي في حساباتها.

يعود هذا الانحسار إلى جملة من الأسباب البنيوية والسياسية والاجتماعية.

تراجعت في العقود الأخيرة أولوية الثقافة في السياسات العامة، وأصبح الاستثمار فيها هامشياً مقارنة بالقطاعات الأخرى. كما أن النزاعات والانقسامات الداخلية بين الدول العربية خلقت بيئة من العزلة المتبادلة، وأضعفت الثقة اللازمة لقيام مشاريع مشتركة طويلة المدى.

يضاف إلى ذلك غياب التخطيط الإستراتيجي الثقافي على المستوى العربي، وضعف المؤسسات القادرة على جمع الطاقات والمواهب في إطار رؤية موحدة.

إن انحسار الثقافة القومية لا يعني غياب الإبداع العربي، فالمواهب الفردية ما زالت تتوهج في مجالات الأدب والفنون والعلوم. لكن هذه الطاقات تبقى متناثرة، تفتقر إلى البنية المؤسسية التي تمنحها الاستمرارية والانتشار والتأثير الواسع. وكثير من المبدعين يجدون أنفسهم مضطرين للبحث عن منصات خارج الفضاء العربي لتقديم أعمالهم، الأمر الذي يعمّق فجوة الانفصال بين الإنتاج الثقافي العربي وجمهوره الطبيعي.

المفارقة أن الظروف التقنية التي نعيشها اليوم كان يمكن أن تشكّل فرصة ذهبية لتجاوز العقبات القديمة. فالاتصال الرقمي، وتبادل المحتوى الفوري، والقدرة على تنظيم فعاليات افتراضية عابرة للقارات، كلها أدوات كفيلة بخلق شبكة ثقافية عربية متجددة. غير أن غياب الرؤية والقيادة الثقافية الفاعلة جعل هذه الإمكانات تتبدد في مبادرات فردية متناثرة، أو تُستغل في مجالات ترفيهية استهلاكية لا تعزز الوعي الجمعي.

ولإعادة الاعتبار للثقافة القومية العربية في زمن الفضاء المفتوح، نحتاج إلى جملة من الخطوات لصياغة مشروع ثقافي عربي مشترك، يتبناه اتحاد أو مجلس ثقافي عربي مستقل، يضع أهدافاً محددة وخططاً زمنية، ويربط بين المبدعين والمؤسسات في كل الأقطار. مع الاستثمار في منصات رقمية قومية قادرة على استضافة المحتوى الإبداعي وتوزيعه على نطاق واسع، مع ضمان وصوله إلى الجمهور في كل بلد عربي.

ولا ننسى دعم التبادل الثقافي المنتظم عبر ورش عمل، مهرجانات، معارض كتاب وبرامج تبادل فني وأكاديمي، بحيث تتخطى الطابع الاحتفالي إلى بناء شراكات حقيقية مستدامة. وإعادة تفعيل حركة الترجمة والنشر على مستوى عربي موحد، لتبادل الإنتاج الفكري بين الدول، وإيصاله للجمهور بلغة مفهومة وأسلوب معاصر.

والعمل على تأسيس صندوق تمويل ثقافي عربي يموّل المشاريع الإبداعية ذات البعد القومي، ويشجع على إنتاج محتوى يخاطب الوجدان العربي المشترك.

الثقافة القومية ليست شعاراً عاطفياً، بل هي مشروع بناء متكامل، لا يكتمل إلا حين يصبح هدفاً مشتركاً لكل دولة ومؤسسة ومبدع عربي.

وإذا كنا قد نجحنا قبل سبعين عاماً في صياغة نهضة ثقافية، بوسائل أكثر تواضعاً وإمكانات محدودة، فلا مبرر اليوم أن نعجز عن استعادة ذلك الزخم ونحن نملك فضاءً مفتوحاً، وأدوات اتصال هائلة، وجمهوراً متعطشاً لما يوحده ويعبّر عن هويته.

التحدي الحقيقي أمام الثقافة القومية العربية اليوم ليس نقص الإمكانات، بل غياب الإرادة والرؤية الثقافية.

فإذا استطعنا أن نعيد صياغة هاتين الركيزتين، فإن الفضاء المفتوح لن يكون ساحة للتشتت والانغلاق، بل منصة لانبعاث حضاري جديد، يربط الماضي الزاهر بالحاضر المتغير، ويؤسس لمستقبل تتكامل فيه الجهود، وتلتقي فيه المواهب، وتُبنى فيه وحدة ثقافية عربية قادرة على أن تحيا وتزدهر رغم كل التحديات.

أخبار ذات صلة

 




المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى