أخبار العالم

نرجسيّة المبدع تُقلّص حضوره الثقافي – أخبار السعودية – كورا نيو



يتعذّر أحياناً على بعض المثقفين الوفاء بالالتزامات، على مستوى لقاءات، حوارات، مشاركات في ندوات وأمسيات، وفيما يرى البعض أن الالتزام مربك، واقتحام للخصوصية، هناك من يبرر غيابه الثقافي والإبداعي بانشغال، أو عدم توفر الوقت، أو أنه ملّ، أو ليس لديه حماس، وقلّة يصرفهم مزاج متقلّب، أو شعور بانعدام جدوى أي مشاركة، وهنا نطرح السؤال عن مدى حرص المثقف، الأديب، المبدع على أن يلتزم بنشاط أو إسهام في فعالية يُدعى لها، وما مسوغات التثاقل عنها؟

الناقد الدكتور صغير العنزي يرى أنّ المثقّف، الباحث الجادّ -تحديداً- يكون مشغولاً فكريّاً بأبحاثه، وأفكار مواضيع، والأفكار المهمّة والبِكْر ليست من المطروح بالطّريق الذي مُهمّة صاحبه الرّصف فقط، وإنّما يقوم على أسئلة، واستنباط، وتأمّل، وشتات يبحث عن لمِّه، وجمعه، وفكرةٍ غائبة يُجْرَى خلفها، وفكرةٍ أخرى عسيرة المُرتَقى يُحاول تفكيكها للوصول إلى نتيجة، فرأسُهُ أشبهُ ما يكون بالمصنع الذي لا تهدأ ماكينته من العمل والضخّ. ويؤكد العنزي أنّ ذلك يصحبه جهدٌ كبيرٌ من التأمّل والمطالعة، والركض خلف المراجع، والتقاط معلومةٍ من هنا، وأخرى من هناك. هذا ما يُشكّل عليه عبئاً ثقيلاً، وربما يكون همّاً يقضّ مضجعه، وأي انقطاع عن ملاحقة الفكرة يجعلها تشرد بلا عودة، وأي تأخّر ربما يضيع عقد فكرةٍ كانت منتظمة، ولفت إلى أنّ الباحث في جهادٍ مستمرّ ما بين فكريّ وآخر ماديّ (القراءة وتتبّع المراجع)، والانشغال يجعله قلقاً أكثر لو انصرف لغير بحثه لأنّه يقطعه عنه، وقلقاً مع بحثه أيضاً، لأنّه في حال صراعٍ مع الأفكار، والصراع معها عملٌ مُضنٍ، وجبّار، وحملٌ ثقيل الوطأة على صاحبه، ما يجعله يضيق ذرعاً بالالتزامات، كون أبحاثه واشتغالاته تُشكّل عليه التزاماً أثقل من كلّ التزام.

فيما عدّها الشاعر مريّع آل سوادي، نسبية التلازم ومزاجية الالتزام، وقال: الأديب مرتهن لانشغاله الجاد بمشروعه الخاص، ومما يؤثر في جديته، الاشتغال بالمحيط من حوله، وهو في حالة ارتباك، وقلق دائم، لا ينفك يعيد إنتاجه من وقت لآخر، ولو كلفه الكثير من الخسائر في محيطه المجتمعي، وبنسب متفاوتة، ويراه قدراً لا يشعر الآخر بحتميته ودوافعه ومآلاته المتعددة. ‏

‏وتذهب الأكاديمية الدكتورة نائلة القاضي إلى أن رسالة الأديب لا تقتصر على الكتابة في حد ذاتها، بل تصل لمسافات أوسع وأعمق من القلم والورق، يكمن جوهرها في التأمل ومصداقية الرأي والخيال الجامح، وترى بعض الالتزامات عائقاً لحركة الأديب الوجدانية والفكرية، تؤثر على التفكير النقدي والإبداعي وتقلّص مساحته، وترى أنّ الأيدولوجيا الاجتماعية تثقل كاهل المرأة الأديبة، فالمطلوب منها النجاح في أدوارها الاجتماعية؛ زوجةً وأماً وابنة، فتتحمل أعباء الأسرة ونفسها والتقاليد والمجتمع حولها، وهي حريصة على أن تظل وفية لقلمها الأدبي، وعالمها الجذاب، إلا أن الصراع اليومي بين الواجب والإبداع، يجعلها في ضيق، وكأنها في ميدان حرب تخوض المعارك يومياً، وتحاول فيها إعادة صفوها ومزاجها، مشيرةً إلى أن المرأة الأديبة تواجه رقابة مضاعفة من المجتمع، ومن ذاتها تُفرض عليها بسبب تربيتها أو نظرة الآخرين لها باعتبارها جريئة، وبالتالي: تُجبر على كبت قلمها. ولفتت القاضي إلى أن الكثير من الأديبات استطعن تحويل هذا الضيق إلى مصدر إلهام، وكتبن عن اللغة والأدب والشعر والمجتمع وغيرها من العلوم والمعارف بلغة تنبض بالقوة والتحدي، وأرجعت إلى نرجسية الأديب الإخلال ببعض الالتزامات، ويتجلى في تقديره المبالغ لذاته، وسعيه في إبهار الآخرين، وعدم تقبّله للنقد أو الفشل، واعتقاده بأنه مصدر أول للمعرفة، والثقة المبالغ فيها، والتعنت برأي واحد، ومزاجيه التعامل وتضخيم الأنا «أنا المصلح.. أنا المفكر.. أنا الناقد»، والترفع عن قراءة النتاج الأدبي للآخرين، ما ينتج عنه فقده علاقته بزملائه الأدباء، وتأثر سمعته، وعرقلة مشاريعه الأدبية، وعدم الثقة به، ولم تستبعد وقوع البعض في حالة من القلق والتوتر، ويترتب عليها تردد بين التمرد والالتزام وما هو ضروري لأجل نجاحه في مشروعه الأدبي والفني. وتعد القاضي الالتزام مسؤولية، مع القارئ الواعي الذي يود فتح حوارات ، ومع الكاتب المبتدئ أو المختلف معه في المدرسة العلمية أو الأدبية، ومع المجتمع، مع الحفاظ على قيمه وأخلاقه وأمانته الفكرية، مؤكدةً أن الالتزام والتمرد عجلة الأديب الناجح الذي يتمرد على الفكرة وليس على الإنسان، ثم يلتزم لتتهذب الفكرة، وتنتج أدباً عظيماً من أدباء عظماء.

رائدة العامري: تفكيك الالتزام وإشكالية السياق الثقافي

ترى الناقدة الدكتورة رائدة العامري، أن المثقف يتموضع في سياق المنظومة الثقافية، في موقع إشكالي بين صورة نمطية له، بوصفه مشاكساً لقيود التنظيم، وبين السعي إلى الانضباط داخل الحقل الثقافي، ضمن نسق إنتاجي، وبينهما بقدر ما تبدو الصورة سياقاً ظاهراً لسلوك المثقف، تتأسس مفارقة كبرى تُخفي خلفها إشكالية أعمق تتصل بطبيعة العلاقة البنيوية بين المثقف والزمن، بين لحظة فعل التفكير كتجربة وجودية عميقة، ومطلب الالتزام كشرط مؤسسي يُراد له أن يكون معياراً للاحتراف والجدية، لتغدو مساءلة مفهوم «الالتزام الثقافي» ضرورة نقدية لفهم طبيعة هذا الصراع البنيوي، وتحوّل الثقافة إلى منتج، يقاس بالأداء، أكثر مما يقدّر بالسؤال، وتؤكد أن المثقف الحقيقي لا يسكن الزمن بوصفه تقويماً إدارياً أو جدولاً إنتاجياً، بل يعيش الزمن باعتباره صراعاً بين زمن داخلي ينهض من القلق والحاجة إلى الفهم، وزمن خارجي يُدار وفق جداول وأطر للتقييم. وهنا تتجلّى المفارقة: فالمثقف لا يرفض الالتزام من حيث المبدأ، بل يرفض اختزاله إلى أداة ضبط، ما يُشبه «المراقبة» التي تنقل الفعل الثقافي من حقل الإبداع إلى حقل الإنتاج، مشيرةً إلى أن الكتابة تغدو فعلاً وجودياً يتولد من اضطرار داخلي لقلق الوعي، لا من متطلبات تعاقدية. فالمثقف في وعيه الأعمق، لا يكتب لأنه مكلَّف بكتابة نص، بل لأنّ ثمة سؤالاً يُلزمه من الداخل، فتتحول الكتابة إلى شكل من أشكال الوجود، لا إلى منتج ضمن دورة اقتصادية ثقافية، وفي هذا السياق، تطرح أدوات النقد الثقافي لإعادة قراءة «الالتزام» لا بوصفها آلية سلطوية ناعمة، بل بوصفها معياراً أخلاقياً ينبغي مساءلته.

وتذهب إلى أن النقد لا يبدو في الظاهر تمرداً عشوائياً على الالتزام، إنما هو تعبير مضمر عن مقاومة «الضبط الثقافي»، واحتجاج على اختزال التجربة الفكرية في مشروع قابل للتنفيذ، فالنقد الحقيقي لا ينبثق من البنيوية، بل من التفكيك، سعياً لزعزعة الانضباط ذاته. وهنا يبرز دور المثقف، لا في أداء دور مخطط له مسبقاً، بل في إعادة مساءلة الأدوار جميعها، بما فيها دوره الخاص، وذهبت إلى أننا أمام لحظة حرجة تتطلب إعادة تعريف جوهر الالتزام الثقافي، لا بوصفه استجابة لمتطلبات السوق، بل باعتباره فعلاً حرّاً ينبثق من الذات.

وأضافت العامري: السؤال لم يعد ثقافياً فحسب، بل وجودياً: من يملك الحق في تنظيم الزمن؟ ومن يملك الجرأة على استعادته؟ وهل ننتج نصوصاً ترضي بنية التلقي؟ أم نكتب لنعيد مساءلة هذه البِنْيَة ذاتها؟ وتؤكد أن المثقف يتحرك داخل مفارقة الذات بوصفها أُفقاً لأسئلة وجودية لا تستجيب للبرمجة الزمنية. ولعل هذا ما يجعل من الالتزام في صيغته السائدة، مظهراً لنسق خفيّ ودقيق يشتغل على الجسد واللغة والزمن، ليعيد إنتاج الذات المُفكّرة، باعتبارها ذاتاً منضبطة، لا ذاتاً حرة.

أخبار ذات صلة

 




المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى