«ورشة» عبده خال، و«عكاظ»، و«النابغة الذيابي»، وعصرة الليمون! – أخبار السعودية – كورا نيو

تابع قناة عكاظ على الواتساب
قرأت مقال الكاتب والروائي المخضرم عبده خال، الموسوم «أدب الفسيخ»، الذي وضع عبره ما يشبه «المرهم» على موضع الألم – وربما رأى البعض من غير المنصفين بأن هذا «المرهم» كان أشبه بـ«الملح»!- في الجسد الثقافي المتورم بالغث والتفاهة ليس في السعودية فقط، بل على امتداد الوطن العربي (لا جديد في توحدنا على الخيبات!)، هذا الألم المستفحل اليوم، وُفِّقَ الأستاذ عبده حينما أرّخ لإرهاصاته مع ظهور المنتديات وبعدها وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يفهم من مقالي هنا وأسمح لنفسي بالتحدث بالأصالة عن الأستاذ عبده، ومقاله، بأننا من مناهضي «السلطة الخامسة»، فنحن من مريديها والشاهد حساباتنا فيها، ولكن غاية الأستاذ عبده كانت محددة حول فوضى الكتابة والكتاب التي ما انتظم لها سير حتى لحظة كتابة مقالي ومقاله.
أنا من جيل في البحرين، تفتحت -وتنقحت- بداية مداركه الكتابية والثقافية عبر «صفحات القراء والثقافة» في الصحف المحلية.. وكما أشار الأستاذ عبده خال، كانت «الإجازة» للكاتب بنشر مقاله أو قصيدته فيهما، بمثابة كلمة «أحسنت» التي كان يذيل بها أحد أساتذتنا بمرحلة الابتدائية والإعدادية أوراق امتحاناتنا.. أما ذلك الشعور بالفرح وتقدير الذات اللذان كانا ينتاباني حين إجازة مقالي أو قصيدتي وبعدها تنشر، فلن يعيشهما اليوم من يعيش في وهم -وأكرر وهم- أنه «كاتب/ شاعر»، والسبب ببساطة في أن «إجازة» مادته إما عبر سهولة نشرها اليوم في كتاب أو عبر آلية غير عاقلة، بضغط زر «نشر/ اضغط» في وسائل التواصل الاجتماعي أغلبها إما مقتبس أو مسروق أو من صنع ذكاءٍ اصطناعي، لا تخضع لتمحيص وتقييم عاقلٍ مختصٍ!
أنا من جيل قرأ بأن الشاعر البحريني الفخم جدّاً «قاسم حداد»، كان في بداياته يبعث بمساهماته الأدبية تحت «اسم مستعار» -خوفاً من رفضها!-، إلى صحيفة الأضواء البحرينية (صحيفة بحرينية أسبوعية تأسست عام 1965، وبعدها في بداية السبعينات أصبحت يومية تحت مسمى «أضواء الخليج»، وبعدها في عام 1976، أصبح اسمها «أخبار الخليج»، التي لم تزل موجودة ورقاً وموقعاً إلكترونياً اليوم)، وكانت تصل مواده تلك إلى مؤسسها ورئيس تحريرها أستاذ الصحافة البحرينية المعاصرة المخضرم جدّاً جدّاً/ محمود المردي رحمه الله، وكان يجيز نشرها، ولم يكتفِ بذلك، بل اجتمع بعدها مع حداد، وطلب منه أن يكون متعاوناً مع صحيفته عبر إرسال مواده بشكل أسبوعي بشرط أن تذيل باسمه الحقيقي. والمردي بشهادة قاسم حداد، كان من أوائل من تنبأ بعلو كعب حداد في الشعر والأدب، ولم تخطئ فراسته رحمه الله، وأطال عمر أستاذنا قاسم حداد.
والشيء بالشيء يُذكر، والفضل لأهله يُنشر ويُشكر، لا أجرؤ أن أتجاوز ذكر الأستاذ محمود المردي دون إيفاء بعض حقه وفضله على الصحافة البحرينية والكتاب ممن بدأوا مغمورين، وبفضل موهبتهم أولاً، ثم بفضل أستاذنا المردي أصبح كثرة منهم بعدها كتاباً معروفين محلياً وإقليمياً. كان الأستاذ المردي طيب الله ذكره ومستقره، يخصص ربع عدد صفحات صحيفته «أضواء الخليج»، للكتاب الشباب الموهوبين لنشر مساهماتهم، مؤثراً ميلاد موهبة عبر صفحات صحيفته، على ما قد كان يمكن أن يحققه من دخلٍ كبيرٍ حينها فيما لو خصصت تلك الصفحات للإعلانات المدفوعة.
ومع هذا كان المردي رحمه الله أشد من «عبده خال» في نقد «كتاب وأدباء السبهللة!» دون موهبة حقة، والشاهد تلك المعركة الأدبية التي جرت بينه وبين الدكتور محمد جابر الأنصاري -رحمهما الله-، حينما كان المردي يطلق على الشعراء وكتاب القصة الشباب مسمى «المتأدبين»، مؤكدا بأنهم لا يستحقون بحكم تجاربهم الصغيرة أن يطلق عليهم مسمى «أدباء»، فيما كان الأنصاري يؤكد بأنّ هؤلاء الشباب يستحقون لقب أدباء، وتجاربهم الأدبية تعد مميزة، وأن على المردي أن يلتفت ويركز على الشؤون الصحفية المتعلقة بأسعار «البصل والطماطم ومشاكل البلدية»، وأن يترك الشؤون الأدبية للمختصين!.. ومع هذا النقد اللاذع جداً من الأنصاري، سما المردي بمهنيته الصحافية الرفيعة وسعة صدره، ونشر رد الأنصاري المذكور كما هو في صحيفته.
وعلى ذكر «البصل والطماطم»، أصل إلى لماذا أثّر فيّ شخصياً مقال الأستاذ عبده خال؟، عبر قصة شخصية جرت بيني وبين من اعتبره أحد أساتذتي الكبار من لهم فضل كبير علي وأبي الروحي، شاعر البحرين الأفخم، الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة رحمه الله وطيّب مستقره، والحديث عن علاقة الأستاذ بالتلميذ، والصداقة والمحبة بيننا التي امتدت لأكثر من عقدين، ذو شجون تقصر عن حمل تفاصيلها أي صحيفة!
والقصة باختصار كنت وما زلت مولعاً بنظم الشعر العربي الفصيح.. وفي بداياتي -التي لم أغادرها بعد!- كتبت نصاً شعرياً، وظننت بأني بذاك النص «المُخلخل» بت حينها «المُهلهل»!.. وكحال السلف من الشعراء الذين كانوا يتسابقون إلى عكاظ لعرض قصائدهم على «رئيس لجنة تحكيم شعراء عكاظ»، الشاعر الأفخم النابغة الذبياني عله يجيزها، ويجيزهم كشعراء (كما نتسابق نحن الكتاب لـ«عكاظ» لعرض مقالاتنا أولاً على «النابغة الذيابي» لعله يجيز نشرها!). «دُست بنزين» بقصيدتي إلى بستانه الوارف بمنطقة الجسرة بالبحرين، وقرأتها عليه، وهو منصت إنصات المعلم المحب، حتى أكملت قراءتها، فحينها بادرني بالقول: «سأحكي لك قصة جرت بيني وبين أستاذي إبراهيم العريض (شاعر وأديب البحرين العملاق).. عندما نظمت أول قصيدة لي أتيت منزله مثلك مسرعاً، ومثلك قرأتها على مسامعه، وعندما انتهيت من قراءتها، وجّه لي نصيحة وبدوري أوجهها لك، قال لي: يا ابني عندما تريد أن تُهدي أحدهم هدية.. إهده تفاحة أو برتقالة، وليس بصلة!».. وختم الشيخ أحمد نصيحته لي: «يا ابني أنت تمتلك الموهبة، ولكن الموهبة إن لم تصقل أولاً بالقراءة ثم القراءة ثم القراءة للمتقدمين من الشعراء قبل غيرهم (وخص ديوان المتنبي طبعاً بالتوصية)، وبعدها بالأناة وعدم الاستعجال – وهنا بادرني بالعامية البحرينية- يعني أول شيء تسويه قصيدتك تعصر عليها ليمونة ثم تضعها تحت المخدة، وبعدها بكم يوم تراجعها وتنقحها لين تستوي قصيدة تستحق النشر ويتكلم عنها النقاد». هذه النصيحة من حينها لم ولن تفارق مخيلتي عند الكتابة بشكلٍ عام، وبشكلٍ خاصٍ عندما يأتي الإلهام لكتابة قصيدة.. كنت وسأظل قبلها أجهز ليمونتي!
وهنا أصل إلى زبدة المقال وختامه، أظن ظناً أقرب إلى الجزم بأن مقال الأستاذ عبده خال، لا يختلف في زبدته عن نصيحة معلمي الشيخ أحمد آل خليفة رحمه الله.. الموهبة وحدها لا تكفي.. القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وبعدها الأناة وعدم الاستعجال في الركض نحو نشر مادتك (أو ضغط زر «نشر»!) قبل «عصرة الليمون»!
أما ورشات الكتابة فيكفيك بأنها لم تصنع عربياً -وعالمياً- مثل «نجيب محفوظ»، وعالمياً مثل «غابريل ماركيز»!
المصدر : وكالات




