التقاضي عن بُعد.. العدالة ومتلازمة السرعة – أخبار السعودية – كورا نيو

من أثمن الاكتشافات التي وضع الإنسان يده عليها في السنوات الأخيرة، الوقت المهدر-الضائع، ويعود فضل هذا الاكتشاف لما وفرته تقنية الاتصالات الحديثة، وهو الوقت الذي كان يستهلكه ويتطلبه إنجاز أي عمل مهما تناهى صغره وتأثيره قبل استخدام الأفراد والمؤسسات لتقنية الاتصالات الحديثة.
هذا المخزون الهائل من الوقت، الذي تم اكتشافه، شجع المستفيدين من المجتمع والمؤسسات لاكتشاف المزيد من الوقت المهدر-الضائع، فدخل كل أطراف المعادل في حمى السرعة، سرعة الإنجاز. فما هو الحد الفاصل بين القضاء على الوقت المهدر-الضائع وزيادة السرعة في الإجراءات المطلوبة لتحقيق الهدف؟ ومتى تكون السرعة مقبولة؟ ومتى تكون غير مقبولة؟ أي ما هي السرعة المعتدلة والمتزنة التي توازن ما بين الهدف وما يحتاجه من وقت بصرف النظر عن السرعة حتى لا يأتي على حساب الهدف النهائي؟ ومتى تكون السرعة هدفاً بذاتها؟
التقاضي عن بُعد أو التقاضي الرقمي هو إحدى ثمرات تقنية الاتصالات الحديثة، التي قلّصت المسافات بين المتقاضين والمحامين والمؤسسة العدلية، ووفرت سنوات ضوئية من الوقت، وقلصت الكثير الكثير من إجراءات التقاضي الإدارية والطقوس والبروتوكولات الشكلية المعمول بها جزءاً أصيلاً من عمليات التقاضي في كثير من الحالات. بل يمكن القول إن التقاضي عن بُعد وفر الكثير من هدر المال تبعاً لذلك، وبالتالي أسهم بزيادة الإنجاز وتحقيق المستهدفات.
في منصة وزارة العدل السعودي بلغ عدد جلسات التقاضي الإلكتروني منذ انطلاقة الخدمة في التقاضي الإلكتروني في مارس 2020 نحو 1.35 مليون جلسة مرئية عن بُعد فيما أصدرت المحاكم عن بُعد 438 ألف حكم. يذكر أنا التقاضي الإلكتروني يتضمن كافة إجراءات التقاضي المنصوص عليها في الأنظمة الممكن تطبيقها إلكترونياً من تقديم المستندات والمحررات وتبادل المذكرات وعقد الجلسات والمرافعات والنطق بالحكم واستلام نسخة الحكم والاعتراض عليه أمام المحكمة الأعلى درجة وذلك من خلال منصة مخصصة لذلك الغرض. يشار إلى أن التقاضي يتم بنوعيه «الكتابي» و«المرئي»
إن السرعة التي تم من خلالها تطبيق النظام العدلي في المملكة كانت مثار دهشة و إعجاب ليس محلياً فحسب، بل إن هناك بعض الدول ومنها الغربية التي بدأت تحاكي التجربة السعودية في التقاضي عن بُعد.
ومن موقعي كاتباً، يملؤني الامتنان لهذه التجربة الرقمية الثريّة وانعكاساتها الإيجابية على المتغيرات الاجتماعية والحراك الاقتصادي والثقافة الإدارية ومردودها الثقافي على المواطن والمقيم بشكل عام، رغم حداثة التجربة.
لكنني لا أخفي قلقي وتوجسي من أي تجربة جديدة بهذا الحجم وما يتركه الإنجاز الكمي من تأثير على البعد النوعي ليس في حالة التقاضي الإلكتروني فحسب وإنما مع كل المشروعات الكبيرة بحجم وأهمية وتأثير مشروع التقاضي عن بُعد.
لا يساورني شك بأن وزارة العدل والمؤسسة العدلية ككل تدرك أهمية الاتساق والتلازم والتكامل بين البعد النوعي والبعد الكمي لأي إنجاز، فلا تكون السرعة هدفاً على حساب تحقيق المستهدفات الجوهرية للعملية العدلية. فمهما كانت السرعة مطلباً وتوفير الوقت نجاحاً، إلا أن تحقيق العدالة في كل قضية وبين كل المتقاضين مقدَّمةٌ على ما سواها.
لعلني لا أقدم جديداً، حين أقترح على المسؤولين في وزارة العدل والمؤسسة العدلية، الاستعانة بفريق بحثي مستقل وتكليف هذا الفريق بإجراء دراسة شاملة ومعمقة لمختلف أنواع القضايا والأحكام التي صدرت في ظل بيئة ومناخ التقاضي الإلكتروني ومقارنتها بالقضايا والأحكام المماثلة التي نُظرت وصدرت أحكامها خارج منظومة التقاضي الإلكتروني. أظن أن فائدة جمةً ستثمر عنها هذه الدراسة وستنعكس قطعاً على التقييم الشامل لإيجابيات وسلبيات التقاضي الإلكتروني مقارنة بالتقاضي غير الإلكتروني حيث الحضور المباشر للمتقاضين والمحامين والقضاة وجهاً لوجهٍ، وحيث الاتصال دون وسائط تقنية.
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات