درس في سبورة النمل ! – أخبار السعودية – كورا نيو

تابع قناة عكاظ على الواتساب
قضت حكمة الله في خلقه على الإنسان أزلاً أن يحمل «الأمانة»، بعد عرضها على السماوات والأرض والجبال، وغيرها من المخلوقات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
حكم الله وهو تكليف معونته «العقل» وهو مناط التكليف بوصفه الأداة المائزة، والموجهة، المُعوّل عليه في اتخاذ ما يرضي الله بالاتباع، وتجنّب ما يسخط الله بالمخالفة، فظلت سائر المخلوقات خلواً من هذا العقل، منقادة بحكمة القضاء الإلهي لأداء وظائفها بسلطان الغريزة، راسمة صوراً شتى من سلوكيات وتصرفات وأفعال هي في مجملها دروس وعبر تعين الإنسان، صاحب العقل، للنظر والتأمل لإدراك حكمة الخالق، متى ما أحسن القراءة، واستوعب الدرس، وفهم الرسالة، بمقتضيات التوجيه الرباني المسطور في الكثير من الآيات، الحاضة على النظر والتأمل والتفكير.
فلنتدبر إلى ما ورد في صحيفة «الشرق الأوسط» من خبر مفاده أنّ النمل المريض في مستعمرته يُطلق رائحةً معيّنة تستدعي النمل العامل للقضاء عليه طوعاً وفداءً، من أجل حماية المستعمرة من العدوى، في سلوك يُعدّ تضحيةً ذاتيةً لافتة، تتجلّى فيه معجزةٌ حيّة تكشف مستوى مذهلاً من التنظيم والكفاءة، وهو درس يتوجّب على «صاحب العقل» أن يقرأه بروية لما ينطوي عليه من رسائل عديدة، يتقاطع فيها الإيثار، مع التضحية، وتغليب مصلحة الجميع على مصلحة الفرد، وحكمة احترام السلوك الجمعي ولو كان في ذلك الموت الزؤام.. والمثير أنّ النملة لا تطلق هذه الإشارة إلا بوجود العاملات حولها، ما يعني أنّ الإشارة ليست مجرّد نتيجةٍ للمرض، بل فعلٌ واعٍ على مستوى الغريزة التطوّرية. موقفٌ يشي بقدرة النمل على تغيير سلوكه تبعاً للسياق، كأنّ المستعمرة تمتلك عقلاً واحداً موزّعاً على آلاف الأجساد..
لكن واقع الحال يكشف لنا صوراً مغايرة كل المغايرة عند الإنسان لهذا الدرس البليغ الذي دوّنه النمل في سبورة الانتباه؛ سرّح عينيك إن شئت في كافة التجمعات البشرية، حيث تقتضي الظروف التقاءهم عفو الخاطر أو بمقتضى الحاجة والخدمة، وضرورات الحياة، فلا تجد أدنى تحرّج من الإتيان بتصرفات فيها إضرار بالغ بالجميع، ومضايقة واضحة لهم، وفيهم من يحمل معديات الأمراض من إنفلونزا وزكام والتهاب في الجيوب الأنفية وكحة ومتحّورات كورونا تسبّبها كائنات دقيقة فينقلونها لغيرهم عبر العطاس بلا تحرّج، والسعال دون كوابح، واللمس المباشر بالقُبل والأحضان والالتصاق، وكل السلوكيات التي تحرج العقل، وتعطّل عمله المفروض.
ولم يملك الواحد منهم أدنى درجات حكمة النمل باعتزال الناس حتى لا يعديهم؛ ناهيك أن يبلغ به الفداء وتصعد به التضحية إلى الإيعاز بقتله؛ صوناً لحياة الناس، أو على الأقل طلب «عزله»، ليأمن الناس من بوائق مرضه وسلوكه، وعوضاً عن ذلك يلوم من يعاتبه على مسلكه، ويجافي من يعتزله ويستعصم عنه!
يصرون بجهل غريب للذهاب إلى دور العبادة وأماكن أعمالهم ومتاجرهم ومناسباتهم الاجتماعية محملين بأمراضهم، يقبّلون هذا ويحضنون ذاك، يوزّعون رذاذ عطاسهم الحامل للعدوى والمرض على أكبر مساحة من حولهم، دون وعيٍ أو إدراكٍ على الأقل بضرورة تغطية أنوفهم بمناديل ورقية تحمي الآخرين من العدوى، يمسحون بقايا سوائلهم المعدية بكفوف أيديهم التي يمدّونها لكلّ قادم للسلام بالقُبَل والأحضان والعناق الحار، بل إنّ بعضهم وهو بكامل مرضه وتعبه يذهب متحاملاً على وجعه إلى المسجد ناقلاً ما به من مرض إلى الآخرين، رغم التوجيه النّبوي «لا ضر ولا ضرار».
انظر إليهم وهم يدخنون في الأماكن العامة والخاصة، دون أدنى مراعاة لحق الآخرين في تنفّس هواء نقي، والاستمتاع بجو رائق.. طالعهم وهم يلوثون البيئة بفضلاتهم ومخلفاتهم الآدمية.. راقبهم وهم يتعاملون مع المرافق العامة بسلوك يجافي العقل وينسف المنطق، وكأن الواحد منهم غير مهتم بنفع الآخرين، وأنه لن يعاود الانتفاع بها والحاجة إليها مجدّداً
هناك الكثير الكثير، ولكن يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق، والأدب ما يروي الشاهد والمثل.
إن السلوك «الآدمي» الذي نشاهده اليوم يكاد يلغي ميزة العقل تماماً، والأدهى أن البعض يصف كل هذه التصرفات غير العاقلة بردها إلى «الحيوانية»، وهذا والله تجنٍ كبير على الحيوان، وسائر المخلوقات، فلو تبع بعض الناس «غريزة» الحيوان في بعض الأمور، لكان أوفق من تصرفات لهم جاوزوا فيها الصواب وهم أصحاب عقل، وانحطوا بها درجات دون مستوى «الغريزة».. وما درس النمل هذا إلا مثال جلي. إنها مستعمرةٌ صغيرةٌ تذكّر البشر أنّ البقاء لا يأتي من القوّة فقط، بل من الانسجام، والالتزام، والوعي بأنّ الفرد ليس أعظم من الجماعة. هكذا يعلّمنا النمل أنّ الكمال ممكن، وأنّ الإبداع الإلهي يتجلّى حتى في أصغر المخلوقات؛ تلك التي نمشي فوقها دون أن ندرك أنّ تحت أقدامنا أمّةً كاملة… تعمل بوحيٍ دقيقٍ لا يخطئ.. فليتنا نتعلم ونحس بعظمة غيرنا من مخلوقات الله، النمل بسلوكياته في الفداء، والغراب بستر موتانا حين عجزنا عن إخفاء قبح ما اقترفه الانسان.
المصدر : وكالات



