أخبار العالم

سم وعسل «الناصح الرقمي»! – أخبار السعودية – كورا نيو



في زمنٍ أصبحت الشاشات امتداداً للحياة اليومية، تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي من فضاءات للترفيه وتبادل الآراء إلى منابر وعظ يدخل صداها كل بيت، يصغي لها الصغير قبل الكبير.

وبين الحقيقة والخيال، تقف النصائح المتدفقة عبر المقاطع القصيرة و«البثوث» المباشرة، تُقدَّم أحياناً بثوب الحكمة، وأحياناً تُطرح بمبالغة تُربك العقول وتحرّك المشاعر أكثر مما تهذّبها.

فتحت هذه المنصات أبوابها لكل من أراد أن يتحدّث، صنعت وجوهاً مؤثرة، بعضها جمع القلوب وأصلح بين الناس، وبعضها الآخر زلزل الأسر بكلمة عابرة أو رأي غير محسوب، وأضحت جملة واحدة تغيّر مصير علاقة أو تشعل خلافاً كامناً خلف جدران البيوت. ورغم كل هذا الزخم، يبقى للواقع صوته الأصدق. فخلف الشاشات تُخفى القصص الحقيقية، وتُروى حكايات لا يسمعها أحد، وتبقى ما وراء الجدران، هي الحكاية التي تحدّد مصير العلاقات، وليست تلك المقاطع السريعة التي تتداولها الأصابع.

مشهد متشابك ومتأرجح

«عكاظ»، تسلّط الضوء على هذا المشهد المتشابك.. المشهد الذي يتأرجح بين الوعي والتضليل، بين الاستفادة والانجراف، بين النصح المسؤول والكلمة العابرة التي قد تُفسد أكثر مما تُصلح، فكيف نميّز بين الحكمة الحقيقية والصوت المرتفع؟

وتطرح السؤال: من يمنح هؤلاء الناصحين سلطة الدخول إلى تفاصيل حياتنا؟

وفي زمن تتداخل الحقيقة بالوهم، وتحتاج الأسر إلى بصيرة لا إلى ضجيج، وإلى وعي لا إلى هزّات عاطفية مبنية على كلمات عابرة، التقت بعض المتخصصين، إضافة إلى عدد من الأشخاص الذين خاضوا تجارب مباشرة مع هذا النوع من المحتوى، لاستجلاء الصورة من زوايا أكثر عمقاً.

نماذج مصطنعة

الكاتب جيلاني الشمراني يقول لـ«عكاظ»: إنه في زمن المنصات المفتوحة، تحوّلت النصائح العابرة إلى شرارات فكرية داخل البيوت، فبعضها يُقدَّم بلا مسؤولية ولا وعي بتنوّع البيئات الاجتماعية وكثير من المحتوى الذي يُقدَّم بلباس النصح يفتقر إلى التأصيل العلمي والمصداقية، فيُحدِث شرخاً بين أفراد الأسرة، أو يُشوّه صورة العلاقات الزوجية والتربوية تحت شعار الحرية أو التطوير، وأخطر ما في المشهد أن بعض المستخدمين يعيشون وهم الحقيقة؛ إذ يُقيسون حياتهم على نماذج مصطنعة تُبثّ يومياً على المنصات. وهنا تتفكك الأسرة تدريجياً حين تصبح المقارنة معيار السعادة، وتتحول النصيحة الرقمية إلى عبء نفسي واجتماعي.

وأكد الشمراني أن المملكة أدركت هذا التحدي مبكراً من خلال تنظيمات إعلامية دقيقة وشاملة أطلقتها الهيئة العامة لتنظيم الإعلام، لضبط المحتوى ومساءلة المؤثرين غير المرخّصين، وضمان أن تكون المنصات الرقمية جزءاً من البناء لا الهدم.

منع التباهي والإسراف

الإعلامي الشمراني يضيف: جاءت الضوابط الأخيرة التي تمنع نشر مظاهر التباهي والإسراف المبالغ فيه، لتؤكد أن الإعلام ليس ساحة استعراض، بل أداة وعي ومسؤولية، فالممارسات التي تُظهر الثراء المفرط أو الترف غير المبرر لا تُمثّل واقع المجتمع، بل تُربك الذائقة العامة وتُرسّخ قيماً استهلاكية دخيلة تتنافى مع هوية الإنسان السعودي المتوازن والمعتز باعتداله.

وتقع على عاتق الإعلاميين مسؤولية كبرى في إعادة تعريف وظيفة الإعلام من التفاعل إلى التنوير، ومن السبق اللحظي إلى التأثير المستدام، فالإعلام الحقيقي ليس من يلهث وراء الضجة، بل من يصنع وعياً هادئاً يُحصّن المجتمع من التشويه والتشويش، نحن لا ننافس في سرعة النشر، بل في عمق الفكرة ونزاهة الكلمة، لأن الميكروفون أمانة، والكلمة في فضاء اليوم قد تبني وطناً أو تُربك أجيالاً.

ويختم الشمراني: «البديل الحقيقي هو صناعة محتوى يوجّه لا يُملي، ويُصلح لا يُثير، ويُبنى على مسؤولية الكلمة لا على تفاعل اللحظة، محتوى يُعزز قيم البساطة والوعي والانتماء قبل كل شيء».

معول هدم صامت

قائد مسار الصحة النفسية بتجمع الطائف الصحي ماجد مطر الهذلي يرى عبر «عكاظ»، أن النصيحة في جوهرها فعل تواصلي ذو بعدٍ إنساني، يهدف إلى التوجيه والإرشاد وتيسير النمو النفسي والاجتماعي للفرد، غير أن التحولات الرقمية المعاصرة أفرزت شكلاً جديداً من الخطاب التثقيفي، يتسم بالانتشار الكمي الواسع والتأثير النفسي العميق، في مقابل ضعف الضبط العلمي والمفاهيمي.. هذه المفارقة جعلت من النصيحة الرقمية -في كثير من صورها- معول هدمٍ صامتاً للعلاقات الأسرية والبنى الاجتماعية، رغم ما يُضفى عليها من طابع أخلاقي أو إصلاحي.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، يؤدي الخطاب الوعظي غير المتخصص إلى نشوء حالة من التنافر المعرفي لدى المتلقّي، إذ يجد نفسه ممزقاً بين معايير مثالية يُروَّج لها عبر منصات التواصل، وواقع ذاتي يفتقر إلى الشروط اللازمة لتحقيق تلك المعايير، وهذا التنافر يولّد مشاعر الإحباط والذنب ويُغذّي المقارنة المرضية داخل الأسرة وخارجها، الأمر الذي يسهم تدريجياً في تفكك الروابط العاطفية وازدياد الشعور بعدم الكفاءة الشخصية.

إشباع معرفي وهمي

يرى ماجد الهذلي أن التعرّض المستمر لهذا النمط من المحتوى يؤدي إلى ما يمكن تسميته «الإشباع المعرفي الوهمي»، وهو شعور زائف بالوعي والمعرفة دون تغييرٍ فعلي في السلوك أو منظومة القيم، إذ يتلقّى الفرد كمّاً كبيراً من «النصائح الجاهزة» التي تُحدث تهدئة آنية، لكنها في جوهرها تُضعف الدافعية للنمو الذاتي والنضج الانفعالي.

إضافة إلى ذلك، فإن غياب التخصص العلمي في المحتوى التثقيفي، قد يؤدي إلى خلطٍ مفاهيمي بين القيم الخاصة والعامة والمفاهيم النفسية، ما يشوّه البنى المعرفية للمستمع. فالصبر يُختزل إلى كبتٍ انفعالي، والتسامح يُفهم ضعفاً، والرضى يُفسَّر استسلاماً. هذه الاختزالات تكرّس نموذجاً إنسانياً هشّاً يعيش في دائرة الكمال الزائف وينكر الحدود الواقعية للطبيعة البشرية.

فالوعي الأخلاقي لا يكتمل إلا بعمقٍ معرفيٍّ ونفسيٍّ يراعي الإنسان كما هو.

عالم افتراضي من المثاليات

من ناحية تربوية، قال المعلم أحمد آل عمر الغامدي لـ«عكاظ»، إنه في زمنٍ أصبحت النصائح تُلقى على منصات التواصل كما تُنثر البذور في الريح، لم تعد كل «كلمة وعظ» تُثمر خيراً، فالكثير من المحتوى الواعظ اليوم -رغم نواياه الحسنة- تحوّل إلى أداة تفكيك للأسرة والمجتمع؛ إذ تُقدَّم النصائح بسطحيةٍ، دون إدراكٍ لاختلاف البيئات والظروف، فيتلقاها البعض كأوامر مطلقة، فيقع الخلاف بدل الإصلاح.

وأضاف الغامدي: إن منصات التواصل الاجتماعي جعلت الواعظ والمُتلقّي يعيشان أحياناً في عالمٍ افتراضي من المثاليات، حيث تُعرض العلاقات الزوجية والأسرية من منظورٍ واحد خالٍ من تعقيدات الواقع، فيتشكل الوهم محلّ الحقيقة، فتصبح النصيحة -بدل أن تكون جسراً للخير- قنبلة موقوتة تزرع الشك، وتُضعف الثقة، وتفكك الروابط الأسرية.

الشاشات امتداد للعقول!

الأخصائية الاجتماعية في جامعة الملك سعود، أميرة مطر تقول: إنه في زمنٍ صارت الشاشات امتداداً لعقولنا وقلوبنا، تحولت منصات التواصل الاجتماعي من مجرّد أدوات ترفيه إلى منابر دعوية، ومنصّات وعظية، وعيادات نفسية مفتوحة على مدار الساعة. أصبح «الداعية الرقمي» أكثر حضوراً من الخطيب على المنبر، و«الناصح النفسي» أقرب من الطبيب المختص، و«الفاعل الاجتماعي» أكثر تأثيراً من المؤسسات الواقعية. ووسط هذا الزخم، يبرز سؤال جوهريّ: هل ما نعيشه على هذه المنصّات حقيقة أم مجرد وهم مصقول بتأثيرات بصرية وكلمات منمّقة؟

لقد أحدثت هذه المنصات ثورة في طريقة وصول النصيحة.. فبضغطة زر يمكنك أن تستمع إلى خطبة قصيرة، أو مقطع تحفيزي، أو استشارة نفسية مبسّطة. وقد أسهم هذا كسر حاجز الخجل أمام طلب الدعم النفسي أو المجتمعي.

لكن السؤال الأهم: هل هذا «الوعظ الرقمي» يُحدِث أثراً حقيقياً؟ أم أنه يمنح شعوراً زائفاً بالتحسن؟ وهل نعيش الحقيقة أم الوهم؟

وترى أميرة مطر أن الجواب ليس في منصات التواصل، بل في طريقة الاستخدام، فمن يتعامل مع مواقع التواصل كـ«أداة مساعدة للحياة الواقعية» سيجد فيها نوراً يعينه على الخير، فالخطورة ليست في التكنولوجيا ذاتها، بل في تحويلها من وسيلة إلى هوية، ومن نافذة للمعرفة إلى قفص من الوهم.

فمنصات التواصل الاجتماعي ليست واعظاً كاملاً ولا ضياعاً مطلقاً، بل مرآة تضخّم ما فينا، والأفضل اختيار الوضع والآراء المناسبة لحالتك الاجتماعية والزوجية والنفسية، ومن كان صادقاً في نيّته وجد فيها معيناً على الحق، ومن ابتغى منها هروباً من ذاته ضاع بين الإعجاب والمشاهدة وهو يظن أنه يحيا الحقيقة.

الواقعية لا المواعظ المنمّقة

الكاتبة فوزية الوثلان ترى عبر «عكاظ»، أنه في زمنٍ تتدفق النصائح والمحتوى الواعظ من كل حدبٍ وصوب، أصبح المتلقي – خصوصاً فئة الشباب- في مواجهة سيلٍ من التوجيهات التي تتنوع بين المفيد والعابر، وبين الصادق والمثير للجدل. وهنا يُطرح السؤال الأهم: هل ما يُقدَّم من نصائح ومحتوى توعوي في وسائل التواصل الاجتماعي له قيمة حقيقية تُسهم في بناء الفرد والمجتمع؟ أم أنها قنابل موقوتة قد تُحدث دماراً نفسياً أو اجتماعياً، وربما تسهم في تفكيك الأسرة أكثر مما تصلحها؟

لا شك أن كثيراً من صناع المحتوى يملكون نوايا طيبة ورغبة في الإصلاح، لكن النية وحدها لا تكفي. فحين تُقدَّم النصيحة بطريقة جارحة، أو عامة لا تراعي اختلاف البيئات والأعمار، أو تُبنى على تجارب شخصية لا تصلح للتعميم، قد تتحول من توجيه نافع إلى رسالة مربكة تُحدث انقساماً داخل الأسرة أو المجتمع.

وأضافت الوثلان: إن النصيحة التي تُلقى دون علمٍ أو حكمة، قد تكون مثل الدواء الخاطئ، يضرّ أكثر مما ينفع، فالشباب اليوم مثلاً لا يعانون من قلة النصائح، بل من تشبعٍ مفرطٍ منها. هم يسمعون كثيراً، لكنهم لا يثقون إلا بالقليل. الفئة الشابة تبحث عن القدوة الواقعية لا المواعظ المنمقة، عمّن يعيش ما يقول، لا من يقول ما لا يعيش.

فالتأثير لا يكون بكثرة الكلام، بل بصدق التجربة ودفء الأسلوب. الشاب لا يريد من يوبّخه، بل من يفهمه ويحدثه بلغته ويشاركه همومه.

الوثلان تضيف: حين تُقدَّم النصيحة بطريقة صادقة وذكية، تصبح جسراً للتقارب بين الأجيال، لا جداراً يفصل بينهم، فالنصيحة الراقية لا تُهاجم الخطأ بقدر ما تحتضن الإنسان وتدله على الصواب، والمحتوى الواعظ الذي يُبنى على احترام العقول ومخاطبة العاطفة، يتحول إلى طاقة بناء تُنعش الأسرة والمجتمع. فالمسألة إذن ليست في النصيحة ذاتها، بل في أسلوب تقديمها، فالكلمة التي تُقال بصدقٍ وحنان، تُثمر وعياً وتُصلح قلوباً، أما التي تُقال بتعالٍ أو تهكم، فمهما كانت صحيحة، ستُغلق الأبواب. لنجعل من نصائحنا رسائل حبٍ تبني ولا تهدم، ووسائل التواصل منابر للنور، لا أدواتٍ للتفجير العاطفي والفكري.

اختر حياتك بطريقتك

وأخيرا هذه بعض المواقف التي تعرضن لها امن خلال نصائح وجهت إليهن أو استمعن إليها، عبر منصات التواصل الاجتماعي، فماذا قلن؟

أكدت (ربة المنزل) حلا لـ«عكاظ»، أنها لا تميل إلى القصص التي تُشجع على ترك الحياة الزوجية أو التفكك الأسري: «كل إنسان يملك عقله وقراره، ولا يتبع النصائح المدمّرة للأسرة، إلا من يسعى لتدمير نفسه، وغالباً ما يكون هشّاً من الداخل ولا يثق بقدراته».

وأضافت: لا أنكر وجود شخصيات إيجابية على مواقع التواصل الاجتماعي، تنشر الفكر والعلم والدين، وقد استفدنا منها كثيراً، لكن في النهاية يبقى الأمر خياراً شخصياً، فطريقة نظرتك لحياتك هي التي تحدد طريقك.

دوامة المقارنة والخذلان

رشا الحارثي (موظفة) تقول: نحن في زمنٍ كثر فيه القيل والقال، وتزاحمت الأصوات الداعية للمثالية، وارتفعت شعارات «الاستحقاق العالي» و«طاقة الجذب» و«ابدأ بنفسك»، وغزت مواقع التواصل جموع من الواعظين الجدد، بعضهم يروّج لفكرة أن الحقيقة تبدأ من داخلك، وأنك وحدك من تختار حياتك، وأنك تستحق الأفضل دائماً. غير أن هذا الخطاب -على بريقه الظاهري- يجعل المستمع يغرق في دوامة من المقارنة والخذلان، ويشعر بالعجز تجاه واقعه.

وأكملت الحارثي حديثها: حين تمتد هذه الخطب إلى الأسرة، تتحوّل الكارثة إلى واقع، فكم من امرأة بدأت تكره بيتها وزوجها بدعوى أنها تستحق الأفضل، وكم من أبناء ورجال فقدوا اتزانهم الأسري تحت تأثير نصائح سطحية تُقدَّم باسم الوعي والطاقة. وأضافت الحارثي بأنها لا تنكر أن بعض الأسماء تركت أثراً إيجابياً في المجتمع، لكن الضجيج والطرح السطحي طغى على القيم الحقيقية «أما أنا فبصراحة لا أجد في كل ذلك ما يُقنعني أو يُغنيني، لأن الوعي الحقيقي لا يُباع في مقاطع ولا يُقاس بعدد المتابعين».


المصدر : وكالات

كورا نيو

أهلا بكم في موقع كورا نيو، يمكنكم التواصل معنا عبر الواتس اب اسفل الموقع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى