ما بين الشمولية.. والتخصصية الطبية..! – أخبار السعودية – كورا نيو

قبل عدة سنوات، في أحد اللقاءات العلمية قام أحد الحاضرين بتعريف نفسه وتخصصه، فأردف قائلا: (فلان بن فلان استشاري جراحة الأنف الأيمن)، فلربما أني قمت بتصديق ما قال، لولا أن أشار إلى أنها طرفة ذات مغزى في خاطره، منتقداً بها ظاهرة إلزامية التخصصات الدقيقة وتشعباتها، واختزال الخدمات الصحية إلى الدقيقة دون مراعاة التخصص العام أحياناً، مما أشعل نقاشاً طويلاً ما بين مؤيد ومعارض. وهنا يُطرح السؤال، ما هي المعادلة المتزنة ما بين توفر الخدمة الطبية المتخصصة وتوفر خدمة طبية شمولية؟ وهل الأفضل للطبيب هو تقديم القليل من كل شيء أم الكثير من شيء واحد؟ أم الوزن بين كليهما؟
ومع ملاحظة الشريط الزمني لوجود التخصصات الطبية فإننا نجد أن بداية وجود الأطباء في المملكة في أوائل القرن العشرين كان من خلال استقطاب أطباء عامين، ولربما وجدوا بالمدن الكبرى فقط بمعدل طبيب واحد في بعض المدن، ومحدودية الخدمات آنذاك كانت تحتم عليهم استقبال جميع أنواع الحلات وعلاجها بلا استثناء. تطورت الأمور بعد ذلك بدايةً من منتصف القرن إلى نهايته، حيث بدأ مفهوم التخصصية، متزامناً مع انطلاق الابتعاث، فحصل الكثير من الأطباء السعوديين على التخصصات العامة، كاختصاص الطب الباطني واختصاص الجراحة العامة والأطفال والنساء والولادة.. إلخ، وحالهم كحال الطبيب العام سابقاً، اضطروا إلى توسيع دائرة خدماتهم حتى وإن شملت جوانب خارج تخصصهم في بعض الأحيان. ومع نهاية القرن العشرين تطور مفهوم التخصصات الدقيقة بشكل كبير، مما عاد على الخدمات الطبية بالنفع وريادة الكثير من المنشآت الطبية السعودية على مستوى العالم.
في الجانب الآخر، صاحب ذلك ارتفاع المنافسة والرغبة في دراسة سنوات أكثر من قبل الطلاب والأطباء المتدربين لغرض التميز والحصول على فرص وظيفية أفضل. وبالنظر إلى تاريخ تطور المفهوم فإننا نجد أن حاجة الوصول إلى سوق العمل الطبي والممارسة الطبية كانت تتطلب ٧ سنوات من الدراسة في عام ١٩٥٠، مقابل ذلك نجدها تتطلب ما بين ١٣ إلى ١٦ سنة في ٢٠٢٥، أي ما يعادل زيادة سنة كل عشر سنوات، ويبقى السؤال: هل ستستمر تلك المعدلات في النمو؟ وهل حان الوقت لتغيير هيكل المقررات والمسارات الطبية؟
وبالنظر إلى بعض الأمثلة العالمية، فنجد أن مقاعد التخصصات الدقيقة في أمريكا وكندا وأوروبا ليست دائماً هي المطلب الأول لأبناء تلك البلدان، وذلك بسبب نظرتهم إلى أنها قد تقيد من ممارستهم في مجال واحد، وأنه ليس بحاجة إلى مؤهل إضافي لعمل ما يريد دقيقاً، ويتشابه هذا الفكر ببعض دول أوروبا كألمانيا، كما نجد عكس ذلك في بعض المراكز التميزية التي تتطلب التخصص دقيقاً في مجال ما بعينه.
ولا شك أني من مؤيدي التخصصية، وذلك لآثارها الإيجابية المتعلقة بتقديم أحدث التقنيات المواكبة للتقدم العلمي، وفتح مجال الأبحاث العلمية الدقيقة التي تسهم بشكل مباشر وغير مباشر على المستفيدين والمؤسسات العلمية، مع مراعاة أنها لابد أن تمثل نسبة متزنة ما بين الأطباء العامين والمتخصصين، في التخصص العام والتخصص الدقيق، وربما الإبقاء على ممارسة المتخصصين الدقيقين إلى ممارسة تخصصاتهم العامة والمحافظة على تلك الثقافة. أما الآثار السلبية للنزوح عن ممارسة التخصص العام تنقسم إلى آثار على الممارس الصحي والمراجع، أما ما هو على الممارس: ١- التأخر عن مواكبة العلوم بتخصصه العام، ٢- فقدان المهارات الإكلينيكية والجراحية لتخصصه العام، ٣- عدم تنويع المخاطر بممارسة تخصص دقيق قد يختفي بفضل الابتكار أو التقنية. وأما الآثار السلبية على المراجع: ١- تدني الكفاءة المؤسساتية (مثال: اضطرار المراجع لطلب خدمة من ٣ أطباء في نفس القسم والسبب اختلاف تخصصاتهم الدقيقة مع تشابه تخصصهم العام). ٢- ارتفاع التكلفة نظراً لأن الخدمة تقدم من عدة أشخاص كلٌ منهم على حِدة، والتي تنعكس بشكل غير مباشر على أسعار التأمين.
ولاشك أن الموضوع بحاجة إلى دراسات أكثر تعمقاً، إلا أنه لابد من العمل على المفهوم والفكر والثقافة المرتبطة بالتخصصية الدقيقة، وذلك من خلال تعزيز أهمية دور الجميع دون استثناء في المنظومة الصحية، عاماً أم متخصصاً، وإيجاد معادلة ما بين (شغف الممارس، حاجة المجتمع، عدد المستفيدين، وتوجه المؤسسة الصحية الخدماتي).
أخبار ذات صلة
المصدر : وكالات